الجمعة، 2 أكتوبر 2009

شهادة../ عن حسن مطلك

حسن مطلك :

فقط لو يتركون مرفقيه على قاعدة الشباك

صورة: حسن مطلك

عبدالهادي سعدون

" لكن الجميع يعرف أن الرجل الحقيقي هو الذي يحذف ساعات الخطر الحقيقية ويقترب من القرار بألغاء صيغ التعجب في تحجيم الذات. لم يكن ثمة وهن في تلك اللحظة " دابــادا


لم ألتق حسن مطلك ولو لمرة.
لكنني أعترف هنا بأنني أعرفه جداً، إلى درجة أظنه أقرب لي من كثير من الأدباء الذين تعرفت بهم عن قرب أو عن طريق القراءة. ولكن الحديث عن عدم الالتقاء لا يعني بالتأكيد بعدي عنه، بقدر ما يعني إننا لم نتواجه ولو لمرة. ولكننا بأية حال من الأحوال التقينا مرة واحدة وحيدة وجهاً لوجه. أقول وجهاً لوجه ولا أقصد بها لعبة أدبية أو نوع من خيال حكائي مطلق، بل هذا ما جرى بالتحديد.
زرت (إسديرة) للمرة الأولى والأخيرة لتواجدي في العراق قبل خروجي إلى إسبانيا تحديداً، وكان ذلك على ما أذكر نهاية عام 1992 أو على أبعد تقدير بداية 1993. كان حسن قد أعدم. ولكن صلتي الدائمة بشقيقه محسن الرملي حتى بعد تخرجه من الجامعة وخدمته في الجيش وعودته إلى قريته كانت في تواصل دائم عن طريق الرسائل. الرسائل التي كنا نتبادلها ونبعث بها بشكل سري وبطرق غريبة ومختلفة مثل عاشقان يخشيان انكشاف سرهما أمام الأهل. لم نكن نخشى حقيقة ولكننا كنا نعرف إنها الطريقة الأكثر أمناً بوصول رسائلنا، وبهذا كنا نستمر بإرسالها عن طريق الأصدقاء الماضين إلى القرية ومعهم في عودتهم من القرية إلى بغداد. وطوال تلك الفترة كنا نتواصل بالحديث عن كل شيء، وكل شيء كان حسن مطلك، وأعني دابادا وأعني شاهين وأعني هاجر وأعني حلاب وأعني الحمار قندس أيضاً. عن طريق هذه الرسائل وغيرها من أفواه الأصحاب وما يتداول بشكل سري أو علني في المقاهي وأقسام الكليات حيث كنت ما أزال أدرس، كان حسن كمقيم أبدي معي. لم أكن أجرؤ الحديث عن أشياء كثيرة أمام الجميع، ولكن جلال نعيم ومنذر الحلو كانا على إطلاع تام على ما كنت أعرف به وأخفيه عن الجميع في الكلية أو في الجريدة حيث عملت لفترة بسيطة، وكنت أمارس البله والجهل لأتوافق مع حالة بلد يمضي سائراً في نومه حسب تعبير لوركا في قصيدته المعروفة.
في نهاية الثمانينات تعرفت أولاً بمحسن كزميل دراسة ولم أكن أسمع بعد بأديب أسمه حسن. ولكن تطور زمالتنا إلى تفاهم ومن ثم إلى تقارب في الحديث الدائم عن الأدب عشقنا الكبير كان يحدثني دائماً عن حسن وآراء حسن. وكنت في كل مرة أكتب شيئاً وأنتظر رأي محسن فيه، كان يحمل لي رأي حسن أيضاً بعد عودته من القرية. إلى درجة تأكدت فيها بان حسن كان يعاملنا مثله لا نقل عنه أو نزيد، بل كان أغلب الأحيان يؤشر إلى نقاط عديدة فيما كنا نكتب ويؤكد حرفتنا وانشغالنا فيه، بل يضيف بتواضع بأنه يتمنى لو يستطيع أن يكتب مثله. بعدها قرأت قصص متناثرة له في مجلات أدبية، واحدة منها فازت بجائزة رسمية، والعديد منها أطلعت عليه في مجلة الأدب الشاب آنذاك وأعني بها مجلة الطليعة الأدبية. ولكنني عرفت حسن بشكل حقيقي لا مجال للشك فيه وبقدرته كأديب حقيقي في مجال القصة والرواية في بلد مثل العراق يضم أسماء قليلة جداً جديرة بتسمية قاص وروائي، كان ذلك بعد تسلمي رواية دابادا، حملها لي محسن معه بإهداء حسن مطلك، وهي النسخة نفسها بإهدائها التي أحتفظ بها في مكتبتي الشخصية في العراق.
يجب أن أذكر بأنني وجدت صعوبة آنذاك بإتمام الرواية أو معرفة خاصيتها الأسلوبية والحكائية، ولكن أشياء عديدة لا أجد لها تفسيراً أجبرتني على قراءتها كاملة حتى وإن لم أدرك حرفيتها أو أمسك بخيوط الروي فيها. وهذا الحال تكرر مع العديد من الأصدقاء الذين لم يستطيعوا تجاوز أكثر من عشرين صفحة على أكبر تقدير. منهم جامعيون وأساتذة بل حتى أدباء ممن ينعتون بريادتهم وجدارتهم كروائيين، بعضهم كتب عن ذلك وآخرين آثروا الصمت وعدم التطرق لذلك.
ذلك الصمت وعدم التجاوب مع رواية دابادا، والذي شكل صدمة كبيرة لحسن نفسه، كان بسبب من أن الرواية فاقت بسرعتها وتجاوزت بضربة واحدة محطات عديدة في مجال النثر التي كانت الرواية العراقية وما تزال، تراوح فيها. ما هو مفهوم الأدب، كيف ننظر للرواية، الأسلوب، التقنية، وما إلى ذلك؟ كل هذا كان حسن قد تجاوزه. ولكن غيره كان عليه المرور بأكثر من كتاب ورواية حتى يصل إلى ما وصل له بأول أنجاز روائي. ولكن لفهم خاصية حسن التي ربما بدت جديدة في الوسط الأدبي، هي قدرته اللغوية الكبيرة، معرفته بالمدارس الأدبية قديمها وحديثها و صبره على الإنجاز وعدم التسرع، وهو على حد علمي قد كتب دابادا لأكثر من خمس مرات. كان في كل مرة يمزق ما كتبه ليبتدئ من جديد. ولم يكن ينتظر سوى أن يرضى بحلتها النهائية.. أتساءل الآن، كم حالة في الأدب العراقي والعربي مثل حالة حسن مطلك مع دابادا؟.
بعد قراءتي الأولى للرواية بعثت لحسن برسالة تهنئة وبنفس الوقت كانت رسالة تساؤل واستفسار ومعرفة المزيد. وعادت لي الإجابة برسالة رقيقة من كاتب يدرك تماماً ما هو إنجازه. كانت الرسالة الوحيدة أيضاً بيننا. تحدث فيها عن الرواية وكيفية الخوض فيها، عن الرمز في روايته، عن الواقعية المطلقة التي ينادي بها وهي الشاملة لكل منجز إبداعي معروف، عن شخصيات كنت سألته عنها. وكان من جملة ما أذكره من تلك الرسالة التي أحتفظ بها بين أوراقي في بغداد: هو تشبيهه للكتابة بحال إحدى القبائل الأفريقية عندما تحزن على ميت لها، إلى درجة تذرف فيها الدموع حتى تجف الأعين. كان يذكر بأن علينا أن نكتب كل ما عندنا في النص الواحد حتى لو شعرنا بأننا لم نعد نملك أية قدرة أو موضوع لنص آخر. كما لو أننا نكتب نصنا الأخير في الحياة.
في تلك الأيام أخبرني محسن بأن حسن سيزور بغداد قريباً، وأول ما سيفعله؛ "سيتصل بك و يلتقيك". كانت تلك المحاولة الأولى للقائنا ولم تتم. لم يأت حسن إلى بغداد، ولم ألتقه. لكنه أعدم بعد حين.
العودة لمعرفتي بإعدام حسن كان لها وقع كبير. كنا ما نزال تحت المطرقة نفسها حتى بعد انتهاء الحرب مع إيران، ولكن الحال كان يسير بشكل أسوأ، وكنا بين الشك واليقين ندرك أن شيئاً لا بد أن ينفجر. نحن، الحكومة، العالم. كل شيء. في تلك السنة نقل لي أحد الأصدقاء من إسديرة الوسطى قرية حسن، خبراً أكده لي اختفاء أخبار محسن عني. قال لي: لقد أعدم حسن! لمعرفتي اللصيقة بذلك الصديق ومعرفته بي، سرد لي أجزاء كبيرة عن كل ما جرى، أو ما ظن أنه جرى، لأن كل شيء كان آنذاك بمثابة أحجية وتراكم لغز فوق آخر.
قررت أن أمضي إلى إسديرة، ولكن الصديق أمهلني حتى يسأل محسن. في تلك الأيام وصلتني رسالة من محسن يمنعني فيها منعاً باتاً الوصول إلى القرية لأن هناك خطر كبير على حياتي، ولإدراكه بأن ذلك ليس بسبب سيوقفني لحظتها، أضاف، بان الأمر سيشكل خطراً واستجواباً على عائلة حسن نفسه وما يجر ذلك من متاعب أخرى. أدركت ما كان يريد محسن تبليغي إيـاه.
في تلك الأشهر البعيدة، كانت أخبار محسن قد انقطعت تماماً. لكنه من وقت لآخر يبعث لي سلاماً، وأحياناً كلمات متناثرة على ورقة صغيرة. كان يخبرني بها انشغاله بتجميع أعمال حسن. كتب متكاملة، قصص، أشعار، مذكرات، مشروع رواية. وكان يكتب أيضاً دراسة طويلة عن معالم دابادا. كان محسن يخشى آنذاك أن يمر الوقت وتبرد الهمة عن مشروع مثل هذا، حتى أتمه نهائياً بدراسة مهمة وطويلة فاقت المئتي صفحة من الحجم الكبير لم يترك فيها جانباً من دابادا إلا وأضاءه، وكان على حق في ذلك لأننا فيما بعد سنضيع ونتشتت ونفقد الوقت إلا درجة لن نستطيع أن نتذكر عبارات التذكر نفسها. في تلك الفترة جاء محسن إلى بغداد وبقي معي لمدة ثلاثة أيام. كنت في تلك الفترة قد عملت محرراً ثقافياً في إحدى الصحف وكنت قد نشرت قصيدة طويلة أسميتها " أعراس الكرة الأرضية"، وهو عنوان موح للذين يعرفون بأن رواية دابادا كان أسمها الأولي قبل النشر هو هذا، وكذلك أهديتها إلى الشهيد شاهين محمود، وهو بطل الرواية.
هذه المرة عدنا سوية. طلب محسن أن أرافقه إلى إسديرة. هناك في تلك الزيارة الوحيدة للقرية إلتقيت بـ حسن مطلك وجهاً لوجه.
حملني محسن لزيارة قبر حسن. لم أذرف دمعة ولم أكن أعرف حقاً هل قرأت الفاتحة على روحه أم ماذا فعلت لأنني أدرك الآن إنني ربما فكرت بكل شيء سوى ذرف دمعة أو قراءة الفاتحة، لأنني ابتسمت فقد كان شاهين بن محمود برفقتي وكان يبتسم لهذه الكش، ولأنه لم يخرج منذ اختفاء الأب وراء أرنب مبقع، ولأنه خرج الآن ولم تعد الأشجار أكبر من حجمها الحقيقي. تواجهت بحسن مثلما تركته. كان هناك أعلى التل، بقبر لا يدل على شيء، ممسوح بالأرض كأنه منها، تشكل موزاييك لوح وجهه حصى لامع وكبير تشيران بلا كلمات: هنا يرقد حسن بن مطلك صاحب دابادا ذلك " أنه لم يرد لحضوره أن يكون شبيهاً بغسل الأحجار قبل رميها في النهر".
في غرفة طينية في أقصى إسديرة الوسطى على مدى أيام جلسنا ثلاثتنا، أنا ومحسن وحسن. نقرأ، نتكلم ونضحك من نشيد (الكش) ذاك. في تلك الزيارة أطلعت على أغلب نتاج حسن غير المنشور، على المقابلة الوحيدة المسجلة له، صوته، أحتجاجاته، تواضعه الكبير، ومدى معرفته الجادة بما يريد أو ما يرى. حملت في عودتي إلى بغداد ما أستطعت، ومنها دراسة محسن عن دابادا. ولكن وجه حسن حملته معي أيضاً.. التقينا ولم نلتق وجهاً لوجه. ولكننا نلتقي كل يوم بعد ذلك وجهاً لوجه.
صورة: حسن مطلك في كردستان - العراق

***
هنا في أسبانيا، لا أبالغ إذا قلت بأن أغلب مشاريعنا يصححها حسن. لأننا في معاركنا وفي اختلافاتنا وتوافقنا دائم الحضور. أحكي عن حسن لأنه معي الآن، مثلاً وأنا أكتب هذه المقالة، ولا أريد أن أذكر " كان" وهو من الأفعال الكريهة له. كان ينادي بقتل كان، والتخلص من الصفات، والبحث عن لغة يشعر فيها الكاتب بأنه مبتدعها هو وحده، وهي ملكه، ميزته واختلافه عن الآخرين في آن واحد. عندما فكرت بكتابة الرمادية، كان شاهين يساعد البطل بإرشاده إلى السلم الذي به يعرج إلى السماء. في بلد متنقل أول من يطفر من فوهة الهاتف شاهين لأنه لا يستطيع أن يقول هاجر وهي أمه، ولأنه يقرر أن يمضي خلف الأب المختفي للحاقه بأرنب مبقع. في (ماوت) وجدته مرافقاً " عجمي" وهو في مواجهة بياض اشد نصاعة من الأبيض نفسه.
علي أن أصحح هنا إنني التقيت و ألتقي حسن مرات عديدة. نلتقي به كل مرة، أسماء وأسماء أفصحت أو لم تفصح، كتبوا على منواله وتأثروا به، وأكرر هنا ما قلته بحوار سابق معي بأن الأفضل البدء بقراءة الرواية العراقية المعاصرة بدءاً من تاريخ صدور دابادا، وهي نقطة مضيئة لا يمكن تجاوزها أبداً.
بعد مرور هذه الأعوام، أفتح الملحق الثقافي لصحيفة الباييس وأقرأ ما يلي عن مجموعة روائيين شباب في المكسيك حصل أغلبهم على جوائز الأدبية في بلدهم وهم يشكلون ظاهرة جديدة وصوت آخر مختلف عن نمط الرواية السابقة، وفيها يتحدث أغلبهم ـ يطلقون على أنفسهم جماعة الـ كراك ـ عن ما أسموه بأدب الواقعية المطلقة Realismo Total الذين وجدوا فيه معبراً جديداً عن إبداعهم الذي ظهر منتصف التسعينات. أضحك وأضحك وأترك لمرفقي حرية أن يسقطا على قاعدة الشباك وأنادي حسن:
ـ ياه يا حسن بن مطلك، حتى هؤلاء تأثروا بك و ينادون بواقعيتك المطلقة دون أن يعرفوك ولا قرأوا لك بعد.

( مدريد في 6/6/2001 ) ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

*نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد
*وفي مدونة حسن مطلك

قراءة في رواية (دابادا)

كل الأمكنة تصلح كرؤية للوجود

مقدمة للإقتراب من رواية (دابادا)


عبدالهادي سعدون


تــقــديــم:
في الرسالة الأخيرة لي قبل رحيله، كتب حسن مطلك:" إن علينا أن نُـسطر كل ما لدينا بصدق وحرص شديد وأن نمنح العمل الإبداعي طاقتنا القصوى حتى لو شعرنا بالنضب، وأننا لن نقدر على الكتابة بعد ذلك "(1). وشبه ذلك بحال إحدى القبائل الإفريقية عند حِدادها، إذ تُظهر حزنها بالبكاء حد شعورهم بجفاف العين من مائها... وكأنه يتكهن بمصير حياته؛ فقد غاب عنا بعد سنتين: أُعدم أثر اشتراكه في عملية انقلابية مناهضة للنظام عام 1990م.. ولكنه ترك لنا رفرفات روحه تُحلق فوق عواطفنا وأفعالنا ورؤيتنا للحياة وأسئلتها الأزلية.. غاب ولم يترك من مؤلفاته منشوراً سوى رواية بكر هي (دابادا)(2)، موضوع قراءتنا النقدية، وبضعة قصص لم تنشر في كتاب حتى اليوم.
--------------------------


1 ـ الواقعية المُـطلَـقة:
يجتهد حسن مطلك في عمله الأدبي الوحيد المنشور، ونعني به (دابادا) إلى التأكيد على جملة أمور لم تُمهله الحياة على إتمامها أو وضع صيغتها النهائية وجعلها حركة أدبية أو اتجاه طليعي جديد، فمن خلال أولى قصصه القصيرة حتى روايته (دابادا) شاء العمل من خلال ما أسماه بـ(الواقعية المطلقة) والتي كان قد ألقى عليها الضوء في أكثر من لقاء خاص ومنشور، مؤكداً أنه:" ليس ثمة فارزة أو حدود ما بين الواقعي والخيالي في الأدب.. أحدهما يكون ذراعاً والآخر رأساً واللغة روح لهذا الجسد الهجين"(3) فالواقع متداخل بالخيال والعكس صحيح، وأن كل ما هو خيالي، هو بالتالي؛ جذره واشتراكه العام واقعي بحت. أي أن عالمنا مطلق بكل نتاجاته واقعاً وخيالاً، وطالما كان للواقع خيال مطلق، فللخيال واقع مطلق وممكن. إن (مطلق) واقعيته يسبح بكل إنجازات الأدب ما بين خالص وهجين، وإن تناوله منها هو في حدود حاجة النص، وإن ما يخرج عن ذلك إخلال بالنص وبمطلقية الواقع الروائي. يقول في ذلك:" تأثرت بجميع الكتاب بما فيهم (المنفلوطي) ولم أُقلد أحداً. أنا مُـعلم نفسي"(4). وهنا يذكرنا بأسماء مثل: فرجينيا وولف، جويس، فولكنر. حيث يشكلون عند لوكاش خير الأمثلة على تخفيف الواقع في الكتابات التي تنحو منحى حداثوي. وهو في هذا إنما يستفيد من كل تجارب الأدب السابقة؛ من الأساطير والملاحم والتراث، إلى الواقعية الشعبية، الاشتراكية والواقعية السحرية ممثلة بماركيز، إلى الوجودية ونظريات الرواية الجديدة أو اللارواية.. حتى أنه يلجأ إلى القصص العلمي، بل كل فنون التعبير الذاتي ومنها السينما والصحافة، وهو ما نراه بوضوح من خلال قراءتنا لرواية دابادا.


2 ـ دابادا.. ما هـي؟:
إن رواية (دابادا) ليست برواية سهلة، إذ أن قراءتها تحتاج لوعي ونَـفَـس طويل ومتمكن من فك رموزها وخوض مسالكها الكثيرة الصعبة واسقاطات تداخل شخوصها وأحداثها وأمكنتها والأزمنة والأفعال المُحركة لها. رواية (دابادا) بقدر ماهي عصية عن الإمساك بجذورها الحكائية والمكانية والزمنية، بقدر ما يزرقها بمضادات القراءة السهلة أو القراءة ذات الاتجاه الواحد، كما يصف الروائي الإسباني خوان غويتيسولو ومن قبله جينيه الفرنسي.. إن رواية دابادا تشبه قصيدة غليظة مشحونة بحس الفجيعة المضحك. غائرة في تراثنا الاجتماعي الحالي وواقعها الأزلي ممثلاً بالتاريخ البعيد والحاضر، تاريخنا المشترك، تاريخ حضارة وادي الرافدين، أو هي، كما يسميها كاتبها،:" تمريناً شاقاً لتعلم الخطأ". هي رواية لا ترسخ اتجاهاً معيناً ولا تدافع عن أي مدرسة أدبية أو حركة بعينها، بل تتحدى كل قدسية تراثنا الأدبي، المحلي والعالمي منه. قراءتها تبدأ من مدلول (اسمها) وتسمياتها الأخرى الظاهرة والخفية. من تداخل أقطاب الروي فيها إلى الأصوات المختلفة النغمة والسرد، إلى الأزمنة الممتدة منذ الأزل إلى اللحظة الراهنة.. وكأنها مختزنة في لحظتها الحالية، لحظة خروج شاهين ـ بطل الرواية ـ من غرفته بعد عشرين عاماً من العزلة أثر اختفاء الأب وراء أرنب مبقع، وهي تمتد منذ كانت " الأشجار أكبر من حجمها الحالي". أو من لحظة مشاهدته للمكان/القرية للمرة الأخيرة وكأنه يراها للمرة الأولى.
دابادا.. صرخة الفراغ المسيطر على واقعنا، أمكنتنا المتداخلة والتي تلتقي في المكان الأوحد/القرية، مثل رمز قريتهم ذاتها، إذ تتفرع طُرقاً عدة من مكان (السدرة) الأسم الحقيقي للقرية في الرواية، ولكنها لا تشاء أن تفترق إلا لتجتمع عندها:" يبدو شاهين محايداً في وقفته تحت السدرة، محايداً تجاه كل مواضيع الحياة الممكنة بالنسبة للمارين به نحو مزارعهم باستثناء لعبة الانتظار التي يأمل أن تنتهي عندما يجد فيها بعض العزاء، على اعتبارات أن الأمر سـيثبت طرفاً منه بمثابة مـشجب لكي لا يـنزلق الـطرف الآخر إلى النسـيان"(5).
دابادا.. هي الصرخة الأولى للتكوين والخلق، صرخة الوليد، صرخة اللامعنى التي تُقاس بمعانٍ أخرى.. هي صرخة المكان ذاته بفعل مواقعته الدائمة ما بين الآن واللحظة القادمة… دابادا اللفظة الغامضة، العصية على إدراك فحواها منذ الوهلة الأولى وتحتاج لتدريب شاق للقاريء، مثلما فعل كاتبها (6). يذكر محمود جنداري في مقال حول الرواية:" إن كل أشخاص الرواية الذين يعلنون عن وجودهم من حين لآخر في الحياة وفي صورتها، في الرواية؛ هاجر وشاهين وشرار (الكلب) وعواد وعزيزة وحلاب ووزة وزهرة والحمار قندس والأرنب المبقع و(المعذَب صابر يوم الأربعاء بعد المطر) لأنهم كلهم مرتبطون بقوة أسباب الحياة. وبقوة أسباب البناء الروائي، مرتبطون بنسيج قوي لا يمكن أن يسيل من خيط واحد دون أن تتحرك بقية الخيوط كما هي حقيقة الحياة في القرية"(7).
إن نص دابادا الروائي بلغته المميزة وتكوينه الاهتدائي، إنما يُنشيء عالمه الخاص والخالص، الأولى:" يحاول ببساطة أن يعطينا لغة للفهم من خلال لغة الشعر. فهو من المنطلق الوجودي، حسب ما يذهب إليه (هيدجر) يحاول جعل اللغة ممكنة كمادة يتصرف بها لأنها مُعطاة إليه من قبل. وذلك لأن ماهية الشعر حقيقة لا تقوم في التدفق التلقائي للأحاسيس والعواطف، وإنما من خلال مجموعة مدهشة من النشاطات البشرية العلوية التي تجعل الموجودات معروفة من جديد من حيث المجازي الذي هو لعبة الأدب"(8).

3 ـ المكان.. ما هو صالح لرؤية الوجود.
يُدخلنا حسن مطلك عبر روايته في المكان الأول والوحيد الذي هو متفرع وأساسي تؤكده الوقائع المار ذكرها بين حين وآخر في متن الرواية. القرية كمكان.. الذي هو العالم الأكبر كطرف منه دون اللجوء إلى فرض عزلة ما بين عالم روائي متخيل، مبتدع وآخر هو عالم حسي، حقيقي للقرية التي تدور فيها الأحداث/الرواية. إن موضوع الرواية الوجودي كأي تساؤل أولي وأزلي يعتبر أي مكان في العالم فسحة صالحة للإنسان من أجل أن يخلق ويبلور رؤيته للوجود، ذلك أن معظم تساؤلاته الرؤيوية للوجود تنبع من الإنسان نفسه، الإنسان العادي أو الخارق أو مجرد ظله فوق الأرض. حضوره أينما كان فوق هذه الكريات الأرضية (أحد أسماء الرواية) حتى لو كان ذلك ممثلاً بقرية مجهولة في خارطة بلده نفسه. والقرية كمكان حدث واقعي وكمكان لوقائع الرواية كذلك، يشكل ثراءاً كبيراً لإغناء الحدث، لأن الأشياء في القرية لها حياة أخرى، حياة لا تشبه قرية أخرى أو أي مكان في أقصى بقاع العالم. فيها أليس هناك ما هو دون حياة.. تحسس الحياة عبر الأمكنة الماثلة والشاخصة منذ بداية التاريخ، يمنح رؤية دقيقة وواعية للوجود اعتماداً على تعامله مع كل الموجودات بذات الأثر الحي؛ شاهين، حزن هاجر، تجارب الرسم، النهر، الغرفة، التل، الوادي، الجبل، النباتات والأشواك… إلخ. تلك المسميات. وهو يشعر بوجع المسمار وهو يُدق ما بين طرفي المطرقة وضيق فسحة دخوله في الحائط، مثلما سيشعر بتفاهة ما يدعون إلى الخروج من غرفته وعزلتها الدائمة، أثر ضحك منفلت وصاخب لم يسمع بمثله منذ عشرين عاماً.. والبطل كرؤية الكاتب ذاتها يتعامل مع الأشياء جميعها كروح حيّة، والضحك لديه هو نقطة التلاقي في الجهات مع بعضها مثل التقاء الشرق بالغرب كما يصفها في الرواية.. والقرية رغم أنها منعزلة في الواقع وأحداث الرواية إلا أنها على تواصل مكاني/رمزي مع العالم، عبر الأخبار التي يحملها الراديو وعبر التقصي عنها حتى أننا نجد الأصوات تصدح بذكر أزمات العالم وأحداثها من مكان غرفة شاهين، نافذة تواصله ورؤيته للعالم، إلى الحد الذي يجد فيه تلاحماً حياً بين اسمه (شاهين) مع محنة (هيروشيما) يقول:" وضحك آنذاك بعد انطلاق العجلة الهرمة من جديد وانحدارها في واد. كانت هيروشيما معهما رغم الضوضاء…"(9).
إن هذه الإشارات ما هي كذلك إلا عُقد الشعور بالذنب أزاء الآخرين ونتيجة الإحساس بالضعف والخيبة اللـتين تلازمان شـاهين على مدى أحـداث الروايـة(10).
المكان لدى مطلك هو بقعة للرؤية، مثلما هو بقعة لإبراز الواقع، مثلما لكل كائن حي بقعته الخاصة كما يكرر الراوي أو بطلها باستمرار. مكانه الدائم/غرفته هي نقطة الرؤية للعالم، للبطل أن يشاهد، أن يخرج للأحداث، أن يعقب على الذكريات، على استذكار خذلانه أو ضياع الأب وراء أرنب مبقع، صمت الأم وحزنها الذي يعرفه ولا يعرف كيف يحييها أو يناديها: هاجر.. أمي. غرفته هي نقطة الالتقاء والانفراج، ومن " كوتها " يطل لاستعراض ما يدور:" الغرف مظلمة ما عدا غرفته لأنها مرتفعة. مكان دائم لتبدل الفصول. مكان خاص للنوم والطعام والعري...". حتى أن الأمكنة تتبدل في الرمز أو المعنى الإيحائي كما في علو غرفة شاهين عن علو بيت حلاب (شخصية التسلط في الرواية) عن بيوت القرية، ما بين رمزها التطهيري في الأولى عن إيحائية التمايز الطبقي في الثانية:" تغوص القرية خلف خيط التلال ويبقى منزل حلاب يدفع الضوء من نوافذه إلى مديات الطرق الفضية..(ص18)". وكما نرى فإن مكان غرفته/ تواجد شاهين، دائم رغم تبدل الأحوال أو المعنى الزمني، ففي محاولة وصف بيت هاجر وشاهين يقول:" البيت ذابل في مركز العالم..." لا حدود مكانية للقرية، هي في المركز، عند خط الاستواء أو إفريقيا مثلما هي بقعة نائية من شمال القُطر، أو أي مكان آخر في العالم، هي الممثل عنهم، ونظرتها تصلح كبعد مكاني لأي وجود آخر. إن أي مشهد صوري من وقائع الرواية هو صورة مكانية ما للقرية/العالم. مكاني وشخوصي متحرك رغم أنه أزلي فالـ" حياة مكرسة في مقهى صغير…(ص38)". إن صلة الوقائع مع المكان في دابادا هي؛ الممارسة الأزلية لطقوس الموت، من خلال الحياة. المكان الذي تتحطم فيه كل الحقائق لتنشأ على أشلائها حقائق تلبس أردية ملونة قابلة للتأمل والزوال " فالقاص يتأمل كثيراً بتشكيلات المكان الطبيعي ومن حوله ويعيد ترتيب بناء الأشياء المادية بلا محاولة إقناع تقليدي ومباشر، بل يلجأ إلى الإقناع الفني..."(11). إن بقدر ما للزمن من قياس حدي في الرواية ممثلاً في ثلاثة أيام بلياليها، هي زمن خروج شاهين من عزلته، والتي فيما بعد تمتد إلى بدايات اختفاء الأب قبل عشرين عاماً، متقاطعة من خلال لغة متماسكة أراد بها الكاتب أن يُصدر واقعه الذي يشهده من خلال بطله الأبله والطريقة المأسـاوية التي تـتصف بـها الحياة في المكان الذي يـعيش فيه ( ألا هي الطفولة)..."(12).
إن الأمكنة في رواية دابادا متداخلة في وضوحها وغائمة بدافع عمقها التاريخي. القرية، البناء المكاني الحالي فوق الأثر الحضاري ( الآشوري هنا أو أعمق بحيث يشمل كل حضارة وادي الرافدين) وصلتها الأركز والأقوى تمكناً من خلال تداخلها مع عمقها التاريخي كماضي أول وحاضر للتو.. بناء الحاضر فوق آثار الماضي، القرية/المشهد قرب، فوق، مع آثار آشور بكل قطعها وأمكنتها الأولى ملتحمة (مكاناً واقعياً) معها يقدر التحامها وجوداً مع الناس الذين هم بالسياق (العرفي) أبناء أولئك الآشوريين أو من خلال الصلة الآنية المكانية والتواجد الحتمي معها:" فتح النافذة، على اعتبار أن فتح النافذة، بل مجرد فتحها، كان يقرب إليه سماء زقورات الآثار: ها هي قريبة، ها هي. ويدخل فجر الحقول في غرفته... ساعة الحائط، رفوف القواقع، ملابس الطفولة ويداه في الظل مفتوحتان للإمساك بشيء ما..(ص38)". والحال ما تنطق به أحداث الرواية، إن العيش اشتراك مكاني ما بين الحالي والماضي، الأثري وما فوق ألأثر، الرفقة المتتابعة للانصهار فيما بين الاثنين. ونجد أن المكان ذاته من ضمن تصورات الوجود. الأمكنة تنطبق مع الأمكنة الأخرى، والأثر يبرز بين فترة وأخرى مع أثرهم الحاضر:" أما البيوت الأخيرة فيها... حيث ينمو الفطر في أكواب الآشوريين..(ص12)".
إذا كان محمود جنداري في وقائع قصصه الأخيرة، والتي تتخذ من التاريخ القديم بذرة تجريب إنساني جديد، ويرتأي فيها البحث في عمق المكان، أي نبش التاريخ كمكان دائم ومتداخل مع عمقه الآخر، فإن مطلك يعالج ترميمات البنية التاريخية في روايته (دابادا) ولا يجد مفراً من أن يطفر الأثر المكاني التاريخي بين حين وآخر كحيز حي وواقع حاضر. الإسقاطات التاريخية تُلمح كفعل حي من خلال السرد الروائي كحالة وجودية مكانية لها عمق رمزي. وهو يكررها عبر أحداث الرواية.
أقتطف هنا وصفه للأثر الآشوري المعروف (اللبوة الجريحة) ويعيد تصويره في أكثر من موضع من الرواية، مؤكداً رمزها الحاضر كواقع عن مأساتنا الخاصة ومأساة الإنسان بوجه العموم:" يرتفع أحياناً بين هندسة الوسائد حتى الإعلان السياحي؛ صورة اللبوة الجريحة. يقول لنفسه كلمة وهو يطيل التحديق في جلستها الملتاعة، وضع الابتهال والنجدة عبر العصور. يمكنه أن يفسر بلا معرفة وبلا أي شعور بنقصان الألم، لأن الإنسان الأقدم كان ينقصه التعبير عن الألم. يضيق بتوسلاتها فلا يجد مهرباً. الإنسان الذي يقدس صورة تعلو على توحل الحظ، في قائمتيها الأماميتين. ولكن آخرها قد سقط مثل كرسي محطم، فكها الهلالي، الجوف الملتصق بالجلد، مخالبها التي أهملت كخطوط في رقيم طيني لكي تخلد لحظة الاحتضار، كأنها كانت تنتظر المصور أن يتم نقشها.. تتحامل وتتساند قبل أن تسقط بمستوى الأرض وتسلم لذباب التفسخ. إنه يسمع نجدتها القادمة من قعر العصور حتى ساعة القيامة. صرخة ملتاعة صادرة عن أسفل القصبة الهوائية.. وقد صارت السهام عزيزة عليها.. لحظات طويلة أخرى. يرفع بصره حيث جروح اللبوة، مستنكراً ومعتذراً بشكل أسف..."(13).
المكان تخليد للحظة الروي، النظرة لذلك الأثر. وهو في تقصيه لا يمنحه اتحاداً مطلقاً مع الزمن، توهانه بهدف أعلى لا يلتقي مع زمنه، لأنه متجزئ منه كضلع آدمي يخلق أنثاه:" كان الزمن ضائعاً في فراغ المكان (ص21)" ومرة أخرى يقول:" يمد الطريق نفسه إلى هدف سري في الهاوية، لأن الهاوية في كل مكان".
إن تداخلاتها الكثيرة ورموز التنوير فيها والعتمة متلازمة، وهي خطوة الفهم المطلق للنص، إذ لا يمكن تجزئتها، وأن قراءتها كعمل روائي تقليدي بحكم الشكل الروائي السائد إجحاف في حقه.. فهي كأي عمل ذهني يحتمل قراءات متتالية. وفي كل قراءة إنارة لجهة أو زاوية صغيرة فيه. ولا أجدني مغالياً إذا وضعتها في مصاف وأهمية روايات ذهنية متميزة، أعمال احتجنا لقراءتها والقراءة عنها عشرات المرات وبمناسبات مختلفة مثل: الدون كيخوته لثربانتس، حكايات بورخس، أو نصوص التصوف العربية الاسلامية، أو التصوف الإسباني ممثلاً بغويتيسولو أو روايات تداعي الوعي أو أعمال غاية في ألإيقاظ والاسترداد الواعي لإشكالية الفرد وعلاقته مع العالم، مثل؛ يوليسيس، الصخب والعنف أو الفنار... رحلتها غوص في عمق الذات والمكان الشاخص منذ بدء الخليقة، ومحاولة خلق حضورها من عين البراءة والبدء ـ عين شاهين ـ ووصفها مع مدلولها في اللسان المرتبك، غير الواضح النبرة ـ لسان شاهين ـ. من خلال الآخرين، من خلال عيوننا نحن، أو حتى عين المؤلف ذاته كخطاب مباشر يعينك على تفقد؛ أن ما تقرأه لم يكن في أية لحظة عملاً خالصاً، وإنما استقراء لأفكارنا وقراءات أخرى قد تكون بحد ذاتها محتملة الصواب أو التخطيء:" أقص الوقائع ولا أدري. إنها الأكاذيب تأتي بها الروايات الواقعية عادة، ربما لم يكن الأمر صحيحاً وربما العكس، غير أنه مبالغ فيه...(ص105)". أو:" أقول شهدتها، لأن الكُتاب يشهدون على جميع مآتم الأرض ويتحدثون عنها، لأنهم أكثر المخلوقات بطالة...(ص129)".

4 ـ حسن مطلك.. الأثر القائم:
إن التعريف بحسن مطلك ونصه الروائي (دابادا) ليس سوى خطوة أولى لإظهاره إلى النور من جديد (بعد مرور 13 سنة على صدورها، و11 عاماً على رحيله) وهي محاولة لإبراز أهم ما تتضمنه أمام النقد للتصدي لها والاهتمام بجوانبها الأخرى التي لم نتطرق لها: لغتها، دلالاتها الرمزية، تعدد شخوصها وتداخل موضوعاتها الزمانية كذلك... كما أنني أذكر بأن رواية (دابادا) قد خلقت وأثرت في جيل أدباء شباب كامل، ولا أجدني مخطئاً إذا ما أشرت إلى أثرها في نصوص ظهرت بعدها في فترة زمنية مناسبة ولكُتاب عريقين في مجال القص العراقي المعاصر.
إن اختلاف (دابادا) عن ذلك الكم الهائل من الروايات والأعمال القصصية التي ظهرت في فترتها أو الفترة التي تلت، تكمن في أن " طريقة كاتب دابادا تختلف، بأنه يأخذ الأشياء التي تؤثر في الحدث، سواء كانت زمانية أو مكانية، وتناول العلاقة أو نوع العلاقة بين العالم والوعي"(14). إن نظرة متفحصة للرواية تدلنا بوضوح إلى قيمة وقوة اللغة وديناميكية النص الأدبي، وهو ما يستذكره حسن مطلك في إحدى المقابلات معه قائلاً:" لم احاول في يوم ما أن أجبر اللغة على قول ما لا تريد أن تقوله.. واللغة هي أنا فأحاول أن لا أكذب.. إنها ليست مجرد أداة للتوصيل، فهي تشمل الصوت أحياناً. المهم أن نجرب كيف نخطيء في اللغة بعد أن نتقن الإعراب.."(15).
إن رواية (دابادا) قد عانت التهميش المتعمد من قبل المؤسسة الثقافية أولاً، ومن ثم رقابة السلطة. الأولى: بدعوى (طليعيتها)!. والثانية: بعد أن تصدى لها بعملية مباشرة لتقويضها مما حدى بالسلطة إلى مصادرتها بعد تصفية الأديب. إن جهد التعريف بها بقي مهمشاً هو الآخر، ولم يصل إلى حدوده القصوى، وهي من المهام النبيلة التي علينا إبرازها في المستقبل القريب، لأن أثرها مازال قائماً في مشهد الإبداع العراقي... لقد قلت في قصيدة رثاء، بعد رحيل الروائي حسن مطلك، ونشرتها في ملحق صحيفة عراقية، أسميتها: (الكريات الأرضية) (عنوان مستمد من الأسم الآخر لرواية دابادا) وأهديتها إلى شاهين محمود بطل الرواية ولسان حال الكاتب. قلت فيها:
" ذاكرتنا بعيدة الوصول
ولكن آثارهم تقترب !".
-------------------------------------------
هـــوامــش:
(1)ـ مقاطع من رسالة حسن مطلك إلى عبدالهادي سعدون في عام1989.(2)ـ داربادا/رواية/حسن مطلك/221 صفحة/الدار العربية للموسوعات/ط1 بيروت 1988م.(3)ـ حسن مطلك/ مقابلة في جريدة (الطلبة والشباب) العدد253 الثلاثاء28/6/1988 بغداد.(4)ـ المصدر السابق نفسه.(5)ـ دابادا/الرواية ص176.(6)ـ يرد ذكر (دابادا) اللفظة في أكثر من موضع من الرواية، الصفحات:161،162،171،199،201.(7)ـ د جنداري/جريدة (القادسية)العدد3095 السنة10بتاريخ 5/12/1989م بغداد.(8)ـ باسل الشيخلي/جريدة(الجامعة)العدد 5 الأربعاء9آب1989م بغداد.(9)ـ دابادا/الرواية،ص133.(10)ـ صلاح حسن/جريدة(القادسية) بتاريخ27/9/1988م بغداد.(أزاء ذلك تحفل الرواية بإشارات الأماكن والأحداث العالمية كما في الصفحات:16،170،171،173،174.(11)ـ باسل الشيخلي،مصدر سابق.(12)ـ صلاح حسن، مصدر سابق.(13)ـ دابادا/الرواية ص64 ويعود لتذكرها في ص134.(14)ـ محسن الرملي/جريدة (صوت الشعب) الخميس 28 تشرين أول1993م الأردن.(15)ـ حسن مطلك/مقابلة، مصدر سابق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*المقالة هي قراءة عامة كتبت لغرض تقديمها في ( ندوة القصة العراقية) التي أقيمت في لندن عام 1997.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشرت في مجلة (ألواح) العدد 11 سنة 2001م مدريد.
*وفي مدونة حسن مطلك

رسالة من حسن مطلك

رسالة غير منشورة لصاحب (دابادا)



الروائي العراقي الراحل حسن مطلك !


عبدالهادي سعدون

لهذه الرسالة قصة لا بد أن أقدم بها هنا قبل أن نمضي بقراءة ما جاء فيها.
وصلتني في ذلك العام نسخة من (دابادا) رواية حسن مطلك الأولى، المنشورة في بيروت، بعد أن رفضت لجنة وزارة الأعلام العراقية آنذاك السماح بنشرها بحجة مضحكة "بسبب من طليعيتها"!. هي النسخة نفسها التي تنقلت معي حتى مدريد والتي أعيد قراءتها على الأقل مرة واحدة في السنة. حمل لي نسخة الرواية، صديقي محسن الرملي ـ شقيق حسن ـ حيث كنا ندرس سوية في كلية اللغات وتعارفنا أساساً كان عن طريق الأدب والقصة على وجه الخصوص.
كان الكتاب الأول الذي يصلني بإمضاء صاحبه، لم يكن لي علاقة متينة بالوسط الثقافي العراقي، رغم معرفتي الدقيقة بأجوائه وكتابه عن طريق القراءة الدائمة، وعن طريق الصحافة التي اشتغلت فيها بوصفي مترجماً لمواضيع أدبية عن اللغة الأسبانية، وكنت أتجرأ في أحيان أخرى على نشر قصة لي هنا أو قصيدة يرضى عنها محرر هذه الصحيفة أو تلك المجلة. كنا نعرف بعضنا بشكل كبير ـ محسن وأنا ـ ونقرأ لبعضنا، ولكنني حتى اللحظة لم أكن قد قرأت لحسن مطلك غير قصة واحدة أو اثنتين.
ذكرت في مقالة سابقة (العدد الخاص عن حسن مطلك/مجلة ( ألواح)11 سنة 2001) بان قراءتي الأولى للرواية جاءت بلا فهم، وشكّل مسك خيوط تتابع أحداثها وشخصياتها صعوبة كبيرة، لم تواجهني شخصياً، بل واجهت أغلب الأصدقاء الذين قرءوها عن طريقي. بل أن العودة اليوم لقراءة المقالات التي كتبت عنها في فترتها، يكشف لنا سذاجة وضحالة وعدم فهم العديد من النقاد لها. ما يؤلم حقاً أن (دابادا) وبعد مرور هذه الفترة الطويلة، ما يزال يكتب عنها وبحقها مقالات سطحية، لا تمس سوى القشرة منها ولا تتطرق لعمقها وتفردها الروائي المتقدم. وهو نفس الألم الذي شعر به حسن مطلك عندما لم يجد من يتصدى لروايته الفريدة ضمن روايات فترتها والفترات التي تلتها، ليس في النتاج العراقي فحسب، بل على مستوى الرواية العربية. لعل من المناسب هنا الإشارة لما قلته في حوار سابق معي بأنه "من الأفضل البدء بتقويم الرواية العربية من فترة ظهور رواية دابادا" وهذا ما أصر عليه اليوم ونحن نقترب من ذكرى مرور عقدين من الزمن على كتابتها، وهي الفكرة التي تتجدد اليوم مع قراءة شاملة للمشهد الثقافي العراقي والعربي، ومع مناسبة صدور رواية جديدة لأسماء معروفة أو مبتدئة.
من مصادفات القدر أن يعاد نشر رواية (دابادا) بطبعتين جديدتين في مصر وبيروت، دون أن تحظى ولو بطبعة واحدة في بلده العراق، لا عن طريق دور النشر الرسمية ولا دار نشر أهلية، بينما نرى عشرات الكتب الضحلة تنشر ويحتفى بها، بينما في الواقع لا تصل لإبداع صفحة واحدة من كتابة حسن مطلك. ولكن اليوم لا مجال لتجاهل كتابات حسن مطلك، بعد أن أعيد نشر قصصه وأشعاره القليلة، وتم إصدار روايته الثانية المخطوطة (قوة الضحك في أورا)، وهي الرواية التي تجيء مكملة لمشهد (دابادا) الروائي، صياغته النثرية وأسلوبه التجديدي في طرق أكثر المواضيع قرباً من العراق بمغايرة حقيقية، وتؤكد بشكل لا مجال للشك فيه بموقع حسن مطلك في قمة روائيي العرب اليوم.
الحديث عن أدب حسن مطلك، يتطلب دراسات مطولة، وهنا ليس موضعها. بل ما دعاني للعودة لها هو اكتشافي لرسالة غير منشورة وجهها الروائي لي في عام 1988، رداًَ عن رسالة تهنئة بعثت بها بيد محسن الرملي أثناء نزوله نهاية الأسبوع لقريته (إسديرة الوسطى)، وكان أن استلمت إجابة عنها، تماماً بعد يومين من تاريخ رسالتي. لا بد من التأكيد على أن نشري لرسالتي ومن بعدها إجابة حسن، لا يأتي سوى للتوثيق لا غير (فرسالتي من تعابيرها وأسئلتها الساذجة وطريقة كتابتها المخجلة، لا مجال للالتفات لها، ولم يكن لي من عبرة في نشرها، سوى أنها كانت الدافع لرد حسن مطلك برسالة قيمة ذات جدوى كبير لدارسي أدبه ومتذوقي فنه الروائي، ومنها لفك بعض رموز روايته وتفحص آرائه في الكتابة والحياة).
نلاحظ من خلال قراءة كلمات حسن مطلك في رسالته ما شغل الروائي في فترة كتابة (دابادا) وبعدها. همه الدائم بكتابة الجديد بعيداً عن أسوار الرواية التقليدية التي وقع في شركها أغلب كتاب الفترة (كان قد شرع وقتها بمخطوط رواية الثانية (قوة الضحك في أورا) والتي يشير لها في الرسالة دون تسميتها). فهمه واختلافه مع الآخرين، رؤيته الحدية لمفهوم الأديب والكاتب، رغبته الصريحة بجدية الكتابة التي تحولت لمسرح سهل الدخول لأي شخص لمجرد كتابة نصوص بلا معنى.
إن قراءة كلمات حسن مطلك بعد كل تلك الفترة، تحيلنا للتمعن بها بوصفها نصوصاً جدية، عميقة حتى وهو يكتب بصورة شخصية لآخر. أنها فرصة التمعن من جديد لأثر أدبي قلما يصادفنا في الحياة الأدبية العراقية، ولعلها تذكرة لتناول أدب حسن مطلك بشكل أكثر عمقاً قبل أن تمر الذكرى العشرين لكتابه الأول، مروراً عابراً، مثلما مرت به رواياته وآثاره الكتابية المتعددة.

* * *

الرسالتان :

1ـ رسالة عبدالهادي سعدون:

" الأخ المحترم حسن مطلك.
إنه لمن دواعي سروري وفرحي أن أجد كاتباً عظيماً بأسلوبه وصنعته الأدبية يهديني روايته القيمة ألا وهي دابادا..
كما أكن لك كل التقدير لأنك سبقتنا واقتحمت بجرأة سياج الرواية الواقعية التقليدية، وصرنا بديهياً نجد من نستند عليه بعلو هاماتنا حين نطرق أساليب جديدة، أسميها مع نفسي "القصة اللا إنتمائية" وروايتك بأسلوبها التفكيكي والغرابة التي تحيطها بالتأكيد واحدة منها.
أكتب لك باقتضاب وإن شاء الله سيكون لنا لقاء قريب، ولكن هناك سؤال يحيرني أرجو أن تجيب عليه بوجهة نظر خاصة ومطولة!.
طالما كانت صرخة "دابادا" تعني اللاشيء بالنسبة للأبله شاهين والذي هو في الحقيقة أعقل الجميع.. فإنها كانت تعني الكثير.. أرجو أن تطلعني يا صديقي: لماذا اخترت "شاهين" أبلهاً.. هل هو بالتأكيد سيتكلم بصراحة.. أرجو الشرح لأجواء الرواية.. وهل أن الحمار هو القدر أم الحياة المنتهية طالما أن صاحبه هو السلطة التي تحكم؟.
كلها أسئلة وعندي الكثير لكنني سأكتفي وأنتظر جوابك القيم.. لك تحياتي القلبية على هذا النجاح وتحيات جميع أصدقائي ممن قرأوا (دابادا) بإعجاب..
يا رب؛ إنني لا أستطيع كتم ضحكي الهستيري المليء بالبكاء على شاهين وهو يعرف أنه لم يقتل الحمار بل ضرب نفسه لأنه لم يستخدم السكين بصورة صحيحة.. لقد شهقت لروعة التصوير.
وأخيراً لك كل التقدير والإعجاب ".

الصديق
عبدالهادي سعدون
8/11/1988

* * *

2ـ رسالة / رد حسن مطلك:

" الأخ عبدالهادي السعدون المحترم.
أفضَل تعريف سمعته للقصة "أنها تجربة عزلة". وأعتقد أنني لو تمنيت حقاً أن أفرد لك توضيحاً لـ(دابادا) لاحتجت لرواية أخرى سأسميها مثلاً "ميتا دابادا" فالمعذرة إذن.
ولكن.. أسمع. أعدك في يوم ما عن شيء سماه أحد الأصدقاء "الواقعية المطلقة" إشارة إلى كتاباتي، وهي فكرة مفصلة، إصبع ديناميت في جسد الموروث الأدبي، ـ أنا متعَب وقلق هذه اللحظة ـ ولا أرغب في الحديث عن (دابادا) بالذات، لأنها أتعبتني.. أريد أن أستريح يا أخي، هناك بعض التطور الذي أسميه تراجعاً عن (دابادا) في بعض الأحيان، تجربة روائية جديدة ستذبحني، أكثر عمقاً.. العقدة هذه المرة ليست في الشكل بل في الفكرة، لا سيما أنني مهووس بتاريخ الحضارات القديمة، وأشعر أنها ليست مجرد أحداث انتهت، بل هي طفولتي أنا، طفولتكم.. وأننا نحتاج جميعاً إلى وعي تاريخي، لا إلى وعي في التاريخ.
أنني لعلى ثقة بأنك أنت وجميع الكتاب الشباب يجدون في (دابادا) باباً للأدب القادم. إذ لم يعد من السهل أن نبدأ بكلمة "كان" كاستهلال قصصي، وهذه أول خطوة للنجاح../ قتل "كان".
حسناً: الحمار "قندس" هو الأيديولوجيا. أو لنقل الروح الخشبية المدللة لكل سلطة.
هناك إشارة لا أملّ من تكرارها على الأصدقاء: يا عبدالهادي لسنا جادين أبداً، لا في قراءتنا ولا في كتابتنا.. فلنجرب الكتابة في وضع الوقوف. لنكن جادين مرة واحدة وإلى الأبد.. وعلينا أن نفرق بين الأديب والكاتب، وذلك سهل لمجرد أن نجلس في اتحاد (الكتاب) العراقي.. ولا بأس أن نصاب ببعض الغرور، وليذهب موظفو الأدب إلى الجحيم ما دمنا نكتب بألم ونتعذب ونحترق. لنجرب أن نعطي أقصى ما لدينا في كل قصة مهما كانت حتى لو كانت طاقتنا ستفرغ نهائياً في قصة قصيرة واحدة، ولننس أسمائنا. فلتكن قصة واحدة عظيمة ثم نعتزل.. لنصرخ قبل أن يصل الطين إلى أفواهنا. قرأتُ في بعض كتب الأنثروبولوجيا عن قبيلة تعطي لكل لحظة حقها. في الحزن يهلك بعضهم من البكاء، وفي الفرح يهلك آخرون من السعادة، وفي العمل تنهار أجسادهم.. ولكن هناك، سينشأ في الداخل، داخل كل شخص، قوة عجيبة ورؤية واضحة للعالم.. فلنجرب.
المعذرة.. سنلتقي في يوم ما ".

حسن مطلك
10/11/1988

----------------------------------------------------
*نشرت في موقع (جذور) بتاريخ 13 أكتوبر 2006م.
*وفي مدونة حسن مطلك

قراءة / د.السيد نجم



قصص عبدالهادي سعدون غير العائلية!


مجموعة قصص متميزة، وفيها من الشعر ما يستحق وقفة أخرى.




بقلم: د.السيد نجم


صدرت المجموعة القصصية "انتحالات عائلية" للقاص العراقي "عبد الهادي سعدون" عن "دار أزمنة" للنشر. من إصدارات الكاتب قصص"اليوم يرتدى بدله ملطخة بالأحمر/1991م"، شعر "ليس سوى ريح /2000م"..مع العديد من المترجمات. وقد كتبت قصص المجموعة ما بين الأعوام 1997-2001.
تلك المقدمة ليست من فرط الحديث حول المجموعة القصصية المعنية، أظن أنها ضرورية قبل قراءة تلك القصص التي هي فرط من الأحوال والتجليات لجوهر واحد ووحيد..وهو هم القاص في البحث عن ذاته التي هي: "فأنا لا أعرف من أنا كما يرددون. ثم يضيفون أنك لست بمغترب، ولا هارب، ولا حاد الأسنان، ولا منفعة لمسح أكتاف، ولا منفى، فلا أنت أبيض ولا أنت أسود، فمن تكون بعد أكثر من باب وأكثر من بحر؟" ص13(قصة حراكه).
بتلك الكلمات القليلة تشكلت أحوال القاص وقصصه.. وعليك أن تقرأ القصص التالية (ثمان قصص) من المجموعة للبحث عن إجابة للسؤال الأولى الذي افترضه، أو لعله طرحه دون أن يقصد أو عن غير عمد.
إليكم تلك القصة:
"لأنني بلا حكاية مقنعة، فإنني أبتكر أمامكم حكايتي الخاصة.
"كل حكايتي كانت هذا اللاشىء: اسم".
رفع ساقيه في الريح فلم تتكئا على ريح، فسقط فتكسرت أكتافه.
عن أبي: إن أصلابنا تعود إلى آخر الزفرات في بطن جارية للحجاج حين أطبق ترسه على طين أضلاعها في فراش القيلولة حتى غفا في وفرة الدفء والدبق ودسم فروج مشوي مازالت هشاشة لحمه تحرق تفاحة رقبتي.
"أنتظره.. حتى يخرج عصفور من فمي ويختفي في الصمت".. هذا ما فكرت به كمدخل للقصة.
القصة التي تقرؤونها معي وتصرون على تبديل عنوانها لأنه ليس فصيحا (ونين)، فأخبركم بأن (الأنين) بلهجتها –هي أمي إلا أنها لا تستطيع تحديد الأشياء- لا يكتمل دون حذف الألف وإضافة واو بدله ولأنها لا تعنى الأنين وحسب بل الحرفة وذوبان الجسد وشد الأوصال وذرف الدموع حتى لا يبقى أثر لدمعه واحدة.
بعد أن بحثت "غادة السمان" عن تماثيله في أنقاض الحجر والصواريخ وسط بيروت، لم تعثر على شئ.
ومنذ أن وضعت قدمي في مدريد، وأنا أشعر في كل لحظة ثمة ثور سيباغتني وينبت قرنيه في خاصرتي.
خرجت من كؤوس (جبار أبو الشربت) عند حافة دجلة، بعصير رمانه، لأصل عند الفندق وسط مدريد، لا لشيء سوى أن أعصر البرتقال كل ليلة قبل عودتي إلى غرفتي.
أمضى في الشوارع بثقب في جبهتي.. (لا تحاول أن تجدد العالم).
***
..ما سبق ليست قصة كتبها القاص، ليست أكثر من السطور الأولى لقصص المجموعة!! وهو ما يثير السؤال حول إمكانية قراءة قصص المجموعة كعمل متتابع يجمع بين طياته خط سحري خفي بدأه القاص بـ"لأنني بلا حكاية"...وانتهى بالاختراق في جبهته التي هي (ذاته) وأنه لا جدوى من محاولة تجديد العالم!
يمكن قراءة القصص كأطياف متنوعة الألوان عن أصل واحد، لذا فضلت ألا أتناول قصص المجموعة قصة فأخرى، لأنها في الحقيقة سوف تكون قراءة مبتسرة.
ومع ذلك نسعى لجمع الشتات ونسأل سؤالا آخر: ما هي خصوصية القصة عند عبد الهادي سعدون؟
..التساؤل حول الخفي وطرح الظاهر المباشر، لعله من خلال بحثه يهتدي إلى ضالته غير المعلنة. في قصة "حراكه" حيث يبتكر القاص حكاية ليكتبها..وقد أخذوه الى حيث لا يعرف، والقوا به في القارب الغامض يتساءل:"أراقب أين أنا؟، فأجدني محاطا بالوجوه نفسها التي تركتها منشورة كأجنحة قبعة عريضة تراقب أفقا لا يتحرك..."
..الشخصيات نتعرف عليها من أفعالها ومن آثارها وتأثرها، ليست هناك ملامح وجوه ولا صور أبدان ، فلا الأم رسمها لنا ولا الجار..ومع ذلك عرفن الكثير عن الأم (مثلا) عندما أشار إلى أنها تنطق "الأنين" بـ "ونين". كما عرفنا الجار عندما خاطبه في قصة "ونين" قائلا: "كتبت القصة منذ زمن بعيد، هو ليس الآن، ربما قبل عشرة أعوام عندما لم أفكر بعد بكتابتها، ولم أكن أتخيل حتى اللحظة التي سأجلس فيها لأسطر الحروف.."
..الأحداث ليست سوى انتقالات بالكلمات، فبدت "اللغة" صاحبة خصوصية لا يمكن الانفلات من تأثيرها والالتفات إلى دورها في قصص المجموعة. عفوا فتحت على قصة، فكانت "تزوير"! أما وقد غاص القاص في أثر "الخفة" والتي شاعت كفهم وفكر في القصة والرواية خلال العقد الأخير من القرن الماضي.. فكانت مفرداته هكذا: "هذا اللاشيء- تشبثت بالـ"هنا"- ولأنني بلا أثر – التجرد من الأثقال- جريت بكل قوة الروح..وغيرها بالصفحة الأولى فقط من القصة".
..وهناك ملمح استخدام المفردات الأجنبية بالحروف اللاتينية، تلك التي شاعت ومازالت محل التساؤل حول جدواها وضرورتها.. لن نفترض جوابا ما، فقط نرى أنها هنا في تلك المجموعة وردت محدود وموظفة بشكل مناسب في القصة الوحيدة التي وردت فيها، قصة "تزوير أو محروقة أصابعه".
..وربما يجدر الإشارة إلى أن القاص استخدم "ضمير المتكلم" في قصصه، وهو أن كان عمدا أو عن غير ذلك، متوافق مع توجه القاص الحائر المتسائل.. الباحث عن ذاته وعن الحقيقة. وقد أتاح ضمير المتكلم للقاص قدر من السماحة وعدم التحفظ ، لنقل قد يخال للقارئ أحيانا أنه يقرأ اعترافا ما أو رغبة في البوح ودعوة إلى المشاركة تصل إلى حد الصراخ وما هي بصراخ!!
يقول صاحب قصة "مخبرو أجاثا كريستي": "في الليل تقترب عربتهم. أنزل إلى السرداب ولا أرى شيئا. وصفوا لي مشخوش. بحثت الليل بطوله ولم أعثر عليه. أخبرتهم وقالوا لي أحمل ما تراه. قبل الفجر ملأوا عربتهم بكل ما طالته يداي. ألواح ومسلات، رؤوس ورؤوس بعيون وبدونها، بهيئة شياطين أو ملوك أو آلهة. تركوني وحيدا منهكا أعلى التل، هواء ثقيل يحيطني، فراغ ثقيل وروح فارغة، بينما عليقتي الوحيدة الممتلئة بالدنانير."
مجموعة قصص "انتحالات عائلية" للقاص عبدالهادي سعدون متميزة، وفيها من الشعر ما يستحق وقفة أخرى، والطريف أن القاص يكتب الشعر أيضا وهو الواضح في قصصه!

-----------------------------------
*نشرت في موقع (ميدل ايست اونلاين) بتاريخ 26/7/2003م.