-انتحالات عائلة - لعبدالهادي سعدون واسطورة الكائن العراقي المعاصر !!
(( إنتحالات:عبد الهادي سعدون أو محروق إصبعه .. ! ))وبعض من حيل ووصفات أخرى
جلال نعيم
ـ كاتب عراقي يعيش في الولايات المتحدة ـ
( 1 )
(( ألفنّ لعب .. في أغلبه .. ))غونتر غراس
هي دعوة .. لا خلاص منها ( هل قلتُ فيها ؟ ) ..أن تدخل اللّعبة معناه أن تدخل .. ها .. أو إبقَ بعيداً .. ستكون أسعدَ منّا حالاً .. فقط تذكّر بأنّ ( مَن يخشى الإبحار .. يموت على الشاطيء ) كما قال الصديق إسماعيل خليل مجيد ، بمنفلوطيّة عذبة وراح يردّدها ويكتبها على الدفاتر والموائد ومحطّات الباص و مقاعد السينما ووصفات الأطبّاء ، وعلى حيطان القصر الجمهوري والمقبرة الملكيّة وخدود حبيبته و .. لكن ، ما كان له ولاحتّى نصف حبيبة .. ! أووووه .. إن هو إلا تأثير ( إنتحالات عائلة ) للكاتب العراقي عبد الهادي سعدون التي لا خلاص منها أو فيها .. وما علينا سوى أن ندخُل اللعبة .. (لُعبته هو ..)التي أدعوكم لأن نلعبها معاً ..
( 2 )
.. و لأنّه عبدالهادي سعدون فقد سبقنا لكتابة ( اليوم يرتدي بدلة مُلطّخة بالأحمر ) المجموعة والقصّة التي حملت المجموعة عنواناً لها ، حيث تحضر ( الثورة ) ( المدينة المُتنازَع على أسمائها .. ! ) و ( الخوشيّة أو الفتوّات أو القبضايات أو الزعران ..! ) و ( سوق مريدي) وغيرها .. وحيث يجيء العراق بهيئة رائحة مُدوّخة وإمرأة تشمّ رائحة البخور ممتزجةً برائحة ملابسها الداخليّة المحترقة ، بينما يُحضرون جثّة زوجها ( الخوشي ) ، القاتل والقتيل ، وقد ثقّبتها السكاكين والخناجر ..وفي الوقت الذي إستحوذ فيه العراق ، كبيئة وشخوص وأجواء ، على مجموعته الأولى ( اليوم يرتدي .. ) فإن ( إنتحالات عائلة ) تستوحي تجربة الخروج ألمليوني ، والأدق ّتجربة (درب) هذا الخروج الذي لوّح للبعض ك(خلاص) ولآخرين ك(منفى) و الإثنين معاً بالنسبة للأغلبيّة !!
( 3 )
من الصعب فصل قصص ( إنتحالات عائلة ) فهي مُتراكبة ، متداخلة ، وُيكمل بعضها بعضاً ، ولكنّها رُ غم ذلك تمتلك وحدتها العضويّة الخاصّة ، إستقلالها و تكاملها ، وهي في ذلك تشبه السيناريّو السينمائي ذو التتابعات المتزامنة ، المتوازية وغير المُتقاطعة .. ( هي رواية في قصص .. و قصص في رواية ) كما قال عنها كاتبها ورحمنا من لذّة الإعتراض على ذلك بالقول انّها رواية أكثر منها قصصاً أو قصصاً أكثر منها رواية !! ، وهو في ذلك إنّما يسجّل إنتحاله ( ألمزدوج ) الأوّل : قصص تنتحل شخوص وثيمة رواية .. ورواية تتبرّأ من ثقلها ، فتبدو على هيئة قصص ..!ربّما هي مُراوحة مابين ( الإرتباك ) و ( الإرتكاب ) .. أو لُعبة – غير- مسرحيّة يتبادل فيها الجميع الأقنعة ، يتركنا فيها المُخرج (ا ألكاتب هنا ) وحيدين في دهشة ذهولنا ..
( 4 )
يفتتح " عبدالهادي سعدون " إنتحالاته ب ( حراكة ) ويُعرّفها في متن نصّه كالتالي " كنتُ في قارب وسط البحر ، هكذا من لا شيء – بلا بداية ولا وسط ولا أعرف حتّى اللحظة لها نهاية – وصاحب القارب يُسمّونه ألمُنقذ ، وزبائنه كلّنا يُسموننا حراكه ، أعني تسميتنا نحن الجالسين الآن وسط القارب في حكايتي التي أبتكر .. " ( ص 13 ) .وهو ( يبتكر ) لنفسه حكاية لأنّه كما قال مُفتتحاً القصّة : " لأنني بلا حكاية مُقنعة ، فإنني أبتكر امامكم حكايتي الخاصّة " ( ص13 ) .و ( حراكة ) ، كما هي المجموعة كلّها ، هي لُعبة (إفتراضات) أو ( إنتحالات ) ، يمتزج فيها ألواقع بالإبتكار لأن ألحقيقة غير مُقنعة ، والواقع ( أضرب ) من الخيال : " فأنا لا أعرف مَن انا كما يُردّدون " ( 13 ) إنّهم يفترضونه ، ولذا عليه أن يبتكر حكاية لإنّه ليس " بمُغترب ، و لا هارب ، ولا حادّ الأسنان ، ولا منفعة لمسح الأكتاف ، ولا منفيّ ، فلا أنت أبيض ولا أنت أسود ، فمن تكون بعد أكثر من باب و أكثر من بحر ؟ " ( 13 ) .و هكذا يُصبح مثل قبطان ( مظفّر النوّاب ) يرسمون بحرا من الحبر _ ويا غافل يا أنت لكَ الله .. !! الآ إنّه لا يطلب منهم او يأمرهم بأن يدفعوه ، و إنّما فقط يفوز بقبولهم ، أن يعبر الى ضفّة أخرى لا يعرفها .. ولكنّهم يأخذونه في عرض البحر ، يدورون به لُيعيدونه الى نفس الوجوه نفس الضجيج ونفس المكان .. هو إفتراض آخر إذن ، إفتراض العالم الذي تتغيّر أسماءه دون أن تختلف ملامحه .. وحيث (المُنقذ) يشبه (رئيس الوزراء) .. كلاهما يطرح السؤال نفسه : " ما هو الشيء الذي يحيطنا ولا نحيطه ، مثقوب بلا ثقب ، أسود ولو كان بلا لون ؟ " (ص 16) . وبينما يُسوّد (رئيس الوزراء) أعمدة كلماته المُتقاطعة دون أن ينبس بشفة ، فان (المنقذ) _ الذي يحلّ محلّه _ يُذكّرهم بالمصير / مصيرهم " إنّه البحر يا اذكياء ، وليس لكم غيره ، أنتم حراكه ولا مهنة لكم غيرها ، وانا المُنقذ . مُنقذكم . موعدنا مُنتصف الليلة . "وحالهم في البحر مع (المنقذ) كحال البلاد تحت سلطة (رئيس الوزراء) ، المنشغل بالكلمات المتقاطعة ، وأشباهه حيث ( صوت الماطور يذكّرني ببحر لا أرى من موجه غير الرّعب في وجوه المُتراصّين ببعضهم " (ص18) . و " الكلّ متشابه ، فهو شبيه بلحظتي " (ص19) وكذلك تتطابق حال البلاد مع البحر " .. أقدام تغادر .. إلى اين والبحر بلا موطىء " (ص19) . و يتطابق (الخروج) مع (الدخول) و(المُغادرة) ب (الوصول) : " أراقب أين أنا ، فأجدني محاطاً بالوجوه نفسها التي تركتها منشورة كأجنحةقبّعة عريضة تُراقب أفقاً لا يتحرّك . إنّها محطّة الترانزيت نفسها " (ص19) .أهوَ العالم ، يوم يفقد الإنسان ( مركز ) وجوده ، فيُصبح دوّامة لا حدود لها ..؟!
( 5 )
و إذا ما كان بطل " حراكة " ، أو مَن إنتحلَ دوره ، كان مربوطاً في قارب أو عليه ، فإن ( تزوير أو محروق إصبعه ) نجده مربوطاً إلى بغل : " أجرّ جسدين في آنٍ واحد ، البغل و أنا ، والبغل ألذي يجرّني .. " (ص24) هكذا يستبدل (رئيس الوزراء) و (المُنقذ) ب(البغل) الذي سرعان ما يصبح مرشده : " أتركه يمضي بجسدينا إلى الأمام لأنّه يعرف الدروب الموصلةأفضل منّي . " (ص24).ها هو ذا يبدأ رحلته مُجرّداً ، عارٍ من كلّ شيء ، حتّى من إسمه وملابسه بحثاً عن " الأمام " و " هو الأمام دائماً ، " لإنّ الخلف مطروح ومنسي ومتروك ، ما أن تضع أوّل خطوة بعد أسياخ القفص " (ص22) ولإنّ هذا ال( إلى أين ؟ ) هو ( إلى اللا أين ؟ ) في الوقت نفسه ف" تشد ّأوتادكَ إلى ريح وترحل" (ص22) ، وتُصبح " فحولة القدمين " ملاذه الأوحد :" جرّبت الجبال المتناثرة مثل القار ، والوديان التي تحصر اراضٍ اخرى. حملت أمتعة وإجتزتُ حدوداً لم يتعرّف عليّ حرّاسها . نقلت أوعية تنبعث منها روائح تبغ و شاي وقالوا لي إنّكَ كالكردي لا تهدأ له قدم ، فإمضي إلى ألامام حتى تصل " (ص22) . و " تصل ولا تلمس الأمام .. " (23) " الأمام لم أره إلإ بالكلمات ، كلمات المُرشد ، كلماتهم " (ص23) .ويبدو إنه ، هنا ، قد خاض بعيداً في دوّامة إغترابه ، فهو ليس بلا حكاية مُقنعة فقط ، مثلما كان في "حراكه" ، وإنما هو بلا إسم ايضاً ، وبينما كان (هناك) ينتحل الحكاية تلو ألأخرى ، مُستعيضاً بها عن حكايته ، فإنّه هنا لا يقوى حتّى على (إنتحال) إسمٍ له :" أصبح مُرشدي يناديني محروق إصبعه ، تعال يا محروق وإمض يا محروق ، ولِمَ لا تطبخ لنا محروق إصبعه يا محروق .. " (24) . ومحروق إصبعه كما يعرفها العراقيّون هي أن :" نجمع ما خبّأناه من كسرات خبز مع ما تبقّى من مُعلّبات ومرق وخضروات ذابلة فما نجد ، بالزيت أو بدونه ونطهيها كلّها معاً ، نأكل ونحترق في ألمعدة وأصابعنا تنشوي لأننا لا ننتظرها تبرد ، فاذا بردت تصبح أكلة أخرى ، باردة ، غير طيّبة ، إسماً آخر " (ص23).أي بلا إسم ، مثله بعيداً عن ال(هناك) ، الذي إنّما كان (هنا) ، وعندما يخرج من ال(هنا) ، يتزوّر ويحتاج إسماً آخر .. تعريفاً آخر لروحه وجسده وهوّيته ككائن ، ولكن ، ولإنّه كان مُصادراً في ال(هناك) و لإنه ساهم في ذلك ، كما سنرى ، فإنّه ، وبعد أن عاش (إغترابه) تحت سلطة " رئيس الوزراء " ، فها هو يمخر في عباب(إستلابه) ، ذلك ألإستلاب ألمُطلَق ألذي عليه أن يحياه في حمّى إنطلاقه (إلى الأمام ) و(إلى الأمام دائماً) ..!هكذا (يستعمله) " المرشد " الجديد ، مع البغل ، في تهريب الآثار .." حجر .. هذا لوح .. لوح لا أهمّية له يقول المرشد لوح غير مهم ؟ .. " (ص26) . ويمضي كالثور (إلى الأمام) .. " وحتّى وأنت تصل ال(هناك)، في هذه المرّة ، لا تفتح فمك وتقول أنا ... مرشدكَ الجديد يبتكر إسمك الجديد ، يهزّ رأسه كذلك ، وأنت ترضى لأنّك أردت أن تخلع جلدك لو تطلّب الأمر " (ص30) .بعدها بزمن عصيّ على التحديد ، وبعد ان يضيف إستلاباً إلى إغترابه ، وينتحل له مرشده إسماً آخر له Abdulhadi (إذ ليس هناك من إسم أكثر تزييّفاً منه ، إسم مُنتحلَ بدقّة)(ص30) ، يبتاع له مرشده بطاقة للذهاب إلى المتحف ، حيث يتعرّف على المسروقات ألتي ساهم بتهريبها ، ولكنّه يراها بعينيه و يحسّها وكأنّها كائنات حيّة هذه المرّة :" أمرّ بإحتراس كأنني لا أريد لها أن تتعرّف على خطواتي .. " (ص31) و " ثمّ تبرق عيناك أيضاً ، وتلمس الحروف ، تحني رأسك وتسمع نبضها ، الحروف ، الصخرة، الحجر ، اللوح ، فيرتجف لإرتجافك " (ص32).وفي لمحةٍ رمزيّة نراه مدفوعاً للتعرّي مرّة أخرى ، كمافي بداية مشواره : " تنتفض وتشعر بالحرّ ، تخلع قميصك وتشعر بالحرّ ينساب على جبينك .. فتخلع كلّ شيء " (ص32) . ثمّ يحمل مهرّبات بلاده حيث ينطلق مُهرولا " تدلّ الاسهم على ألأمام .. تجري الآن إليه ولو أنّك لا تراه ولا تلمسه . تجرّب فحولة القدمين التي لا تشكّ بها أكثر من الآن ، وهي التي يعنونها حتماً . " (ص32) . تُلوّح (النهاية) هنا تقليديّة كاملة ، حتّى برمزيّتها ، وكأنّه سيصحّح جريمته ويعيدُ المسروقات إلى أماكنها ، لولا ان القاص يفخّخها ب ( ولو إنّك لا تراه ولا تلمسه .. ) أي إنه ينتزعها وينطلق بها الى اللامكان أو (اللا أين) الذي (لا يراه ولا يلمسه) ، ربما لإنّه مطعون بإغترابه هناك ، وقد لُعن بإستلابه هنا ، فإنّه في النهاية إنّما يتمرّد على نفسه وعلى عالمه برمّته ، لأنه لم يبقِ لا (أمام ) ولا (خلف) ، وإنّما (اللا أين..) الذي ينطلق إليه مجرّباً (فحولة القدمين) مرة أخرى ..!
( 6 )
في (طيران بالمقلوب) يدخل "عبد الهادي سعدون" في إنتحالات (العائلة) .. حيث يحاول (عمّه) المُفترَض إنتحال جناحي طائر .. فيسقط صريعاً ، بينما "ينتحل" ، بطلنا نفسه ، حلم أو إفتراض السقوط من أعلى بناية ، بناية حقيقيّة مُعاصرة ( وحيداً الآن إلا من فتوقات الريح وأنا أخترقها بإنزلاقي البطيء .." (ص38) وهو ، هنا ، إنما يتهاوى إلى الأسفل ، ربّما مُفترضاً أو يائساً ، من (الأمام) ألذي كان يلوب بحثاً للإنطلاق إليه ..!بينما يحفر في قصّتيّ (العنعنة) و (ونين) شيئاً من تأريخ العائلة ، تلك العائلة الخرافيّة التي لا تكفّ عن "الإحتيال" على الواقع الذي يبدو لها مفهوماً غريباً ، غير قابل للإستهلاك أو الهضم ! وهي تشكّل حلقة في ال(إنتحالات) ، تخرج عنها لأنّها مُعبأة بالحنين (لأن ثمة ذاكرة غير مُعطّلة ! ) ، وتتّصل بها لأنّها تُحشّد لنا أسباب الرحيل ومبررات البحث أو الإنطلاق (الى الامام ) .. فها هو (الأب) (الذي يحشو أذنيه بالقطن ليتجاوز "أنين" الواقع ! ) يُحمّل إبنه أشرطة داخل حسن في عربة شحن ويأمره بالمضي مُشدّداً :" لا أريد أن أراك في البيت إذا لم تتخلّص منها "(ص46) ، ثمّ يكتشف البطل بأنّه ليس الوحيد في ذلك " أمضيت الأيّام بحثاً عن ملجأ ، حفرة ، أو وكر كي أخبىء صوت داخل حسن دون جدوى . إكتشفت إن الجميع عندهم ذاك "الونين" ويبحثون عن طريقة ليتخلّصوا منه فيبعثون بأبنائهم محمّلين بعربات ، مثلي كي يطمروا صوته " (ص47) .هكذا يخلق "عبد الهادي سعدون" رموزه ، ببالغ البساطة والشفافيّة ، وببلاغة عالية في الرسم والإيحاء والتصوير ، ورفع القابلية على التعبير ، ليس عن فرد واحد فقط ، وإنما عن شعبٍ بأكمله ..الإ إنّه يبدو بأن اللعبة تستهويه ، فيتسع أفق نصّه إلى حدود غير متوقعة ، كما ( سنحزر ) أو نرى .. في قصصه وحكاياته القادمة .. !
( 7 )
ففي (مُخبرو أجاثا كريستي) يقترح عبد الهادي سعدون إسطورته الخاصّة ..فإذا ما دأب "القدماء" على إلقاء صفة (الإله) على الأصنام و التماثيل حبّاً ، أو خوفاً أو تقرّباً (زُلفى !!) للربّ ، فإن "عبد الهادي سعدون" يُعيد لصانع التماثيل عظمته وهيبته .. و هو مُمثّلآً هنا ب " مُنعم فرات " الذي "يختفي" بعد أن يجرؤ " إبن أخته " (أو من إنتحل صفته ) بأن يدخل (سرداب السرّ ) بحثاً عن " مشخوش " التمثال الذي طلبه " مخبرو أجاثا كريستي " منه ، وأغرقوه بالدنانير مُقابله ، هكذا يفعل فعلته " أنزل إلى السرداب ولا أرى شيئاً ، وصفوا لي مشخوش – بحثت الليل بطوله ولم أعثر عليه . اخبرتهم وقالوا لي إحمل ما تراه . قبل الفجر ملأوا عربتهم بكلّ ما طالته يداي . ألواح ومسلات ، رؤوس و رؤوس بعيون وبدونها ، بهيئة شياطين أو ملوك أو آلهة ."(ص62) ثمّ سرعان ما نكتشف بأنّها إنّما كانت (الخطيئة الأولى) ، وما تجرّه من لعنات " تركوني وحيداً مُنهكاً أعلى التلّ ، هواء ثقيل يحيطني ، فراغ ثقيل وروح فارغة "(ص63) و " قبل أن أعرف ما أفعل بهذه الخفّة والفراغ ، أسمع أمّي تصيح و لا تئنّ ، تقول إنّه لم يمُتْ ، وهو خالي ، فُرات ، ولكنّه لم يعُدْ الى حجرته ، ولم يعثروا له على أثر"(ص63) .هي لعنة آدم ، ولكن بشكلٍ آخر ، يُطوّعها القاص ليُعبئها بمحمولاته " أجلس على ألتلّ ولا أراه يُحيّيني "(ص63) و "تركت عملي أخيراً وحاول صاحب "القوقأة" أن يمدّني بالدنانير. هززت الرأس وإبتسمت وجلست عند بوّابة حجرة فرات التهم التبغ "(ص63) ثمّ يحمل (رسالة) فرات " حاولوا لمرّة واحدة أن تُدركو لغز أنف الكلب ، يشمّ رائحة جذر الطين . إقتربوا منّي وشمّو .. أحدهم يقول بكلّ ثقة : هذه لعنة السرداب، ألم أقُل لكم ذلك ! "(ص63) .ثمّ لأنّه مُقتنع تماماً بأنّ فرات ، لم يمتْ ، مثل كلّ الآلهة ، الإ إنّه غائب ، مثلها جميعاً أيضاً ، فيقول " أجلس كلّ يوم ، أخدّش ألحجر برؤوس وأجنحة ، شياطين وآلهة .."(ص64) وهو إنّما يفعل ذلك من أجل إستحضاره ، أو " دعاءً " له لأن يغفر له أو يعود " لعلّه يهتدي للطرقات ، لعلّه يحنّ أخيراً لخدوش اليد و نُدَبْ ألجروح وعروق التورّم من ضرب حجر بحجر و نتوء بآخر "(ص64) . وهكذا تصل اللعنة إلى أن يصبح رأسه من حجر هو الآخر ، بينما تنهال عليه الضربات " الضربات التي لم تتوقف ولم تخفت بعد في رأسي ، وأنا لا اعرف ماذا أفعل مع الرأس ، رأسي ، الذي نحته لي فُرات ، وهو خالي "(ص64) .هكذا تنتهي القصّة ، أو ، ربّما ، هكذا تبدأ .. قصّة إغتراب وغربة وإستلاب محروق إصبعة أو عبدالهادي سعدون أو ، ربّما شعب بأكمله .. برأس " سيزيفيّ " من حجر ! نحته "مُنعِم"/ أي (مانح النِعَم / في دلالة الإسم ومعناه ! ) و " فرات " ( النهر / خالق الحضارات ألأوّل)..وإذا ما كان اليوناني "سيزيف" يحمل على ظهره الصخرة بعد تدحرجها ، فإنّ حجر العراقي أو " عبدالهادي سعدون " أو " محروق إصبعه " مُعلّقة على الرقبة ، ولا فكاك منها ، لعنة حقيقيّة ، ينام بها ، و يفكّر بها ، ولا يتنفّس الإ عبرها .. والأدهى من ذلك الآن ، إن عليه بأن ينوء بحملها وينطلق (إلى الأمام ) بها .. " بينما قدماي تحملاني أبعد من أحجاره ، إلى أبعد نقطة من التلّ ، أبعد نقطة من الصحراء . " (64) .إنّه العراقي إذ يصنع إسطورته المُعاصرة ، الخاصّة به ، أو ربّما يجدر بنا القولْ : إنّه العراقي الذي صُنعت به أساطير و أساطير من أقصى العالم إلى أقصاه ..؟!
( 8 )
و قد تكون هي (لعنة السرداب) أو (الخال) " منعم فرات " ، الذي ينتحل وجه (الإله) .. أو ربّما هو حلم (العمّ) أو كابوسه ، بإستعارته جناحي طائر ، لينتحل السماءْ فضاءً له ، أو لعنة (الأم) و "ونينها " مع صوت " داخل حسن " ، أو هو تواصل مع " إبتكارات العائلة" ، أوهامها و توهّماتها ، ما يدفع (عبد الهادي سعدون أو محروق إصبعه) للدخول إلى " العالم الكبير" مُدجّجاً بالوهم والرّعب والإندحار .." منذ أن وضعتُ قدمي في مدريد ، وأنا أشعر في كلّ لحظة ، بأنّ ثمّة ثور سيباغتني ويُنبت قرنيه في خاصرتي " (مُصارعات ثيران- ص65) ، ليس لأنّه غريب عنه (هذا الثور) وانما (لإنّه)من فصيلةٍ يعرفها ، أو ، ربّما ، هي فصيلته.. ! فها هي (المُعلّمة) توبّخه "يالكَ من ثورٍ هائج"(ص68) ثمّ يقول "لإنّها تقول بأنّها مُعلّمتي وهي التي تعرف ما أكون ، فأجيب بهزّة رأس لا يترجمها الجهاز ، فتبادر بالقول أنت كذلك مثل الثور .. اعني إنّك ثور أيضاً البيضتان هما الدليل ، أو ، لنقل الرّجل ثور بشكلٍ آخر "(ص67) . إنّ صفة (الثور) التي تختارها له المُعلّمة ، وتنشغل بالبحث عن دلائل لها لا تتجاوز محاولة (المنقذ) في إبتكار إسم وصفة له (أو لهم) (حراكة) ، أو محاولة (المرشد) الذي سيسمّيه (محروق إصبعه) وغيرهم ..لإنّه – كما أخبرنا- بلا حكاية مُقنعة ، وبلا إسم و ..إلخ .. ثمّ ولأنّه (ماذا يمكن أن أكون غير مورو ؟) – كما يُعنونْ نصّ لاحق- فإنّ المُعلّمة – هي الأخرى- تُلصق عليه الصفة التي تختارها ، و التي لا تبتعد كثيراً عن شيء من صفاته ! " .. ويجيئون الآن ليفهموني إنّك تخشى ألثيران ، ثور يخشى ثور . ماذا تريد أن تقول لي ، قُلْ وخلّصني ؟ "(ص67) . هي أشباح (ثيرانه) ما يُطارده ، و يخلق (رهابه) الخاصّ به والذي سرعان ما سينقله إليها " كان لديها شوق كبير لأن احدّثها عن الخوف.ولأنني لا أحفل به سوى بلحظة وصول ثور مُباغت فكنت أبتكر حكايات ومعلومات أحيلها إلى وثائق سرّية ومعارك ووقائع عائلة وفضائح وحروب وهي التي تُنصت دائماً . تبكي ، تضحك ، ترتجف، تُطقطق أصابعها ، تُخبّىء رأسها في بلوزتها ، تطرحه على الأرض وعلى الفراش .."(ص69) .وهي تفرض عليه بأن يكتب "أنا أحبّ الثيران " مائة مرّة ، حيث "أكتب تسع وتسعين مرّة وأتاخّر عن المائة"(ص68) و كأنّه يخشى لعنة إله قديم ، أو يستحضره عندما يصل "المائة".. (ما أن وصلت المائة حتى سمعت أكثر من باب يُفتح . خرجت مُعلّمة إنسكلوبيديا ألثيران ..)(ص68) . هي (مُنعم فرات) آخر ولا بُدّ من أن ينقُل لها "لعنة سرداب" آخر .." لا أذكر إنّني كلّمتها عن حروب ، لهذا خمّنتُ إنّها تُمارس الإبتكار والوهم مثلي .."(ص70) .هكذا تنضمّ الى (عائلة الإنتحالات) فتخرج إلى الشوارع بعد أن " تنسى " إرتداء ملابسها .. يراها بالتفاتة من رقبته ، لأنّه يكتشف بأنّه مربوط في مقهى على جادّة الطريق بينما يلمح ثيراناً تجري نحوهما على إسفلت الشارع بدلاً من السيّارات ، ف" ينظر بعينين واضحتين لا ترمشان ، ثمّ يحني رأسه ويُبرز قرنيه نحو الكرسي ذاك . الكرسي الذي لم يتمايل ولم يأت بحركة لإنّه مربوط إلى التراب بحجارة تثبيت متينة "(ص74) .هكذا يُفاجئنا في النهاية ببروز قرنيه وإستعداده للتحدّي ، تحدّي الثيران ، فصيلته ، الا إنّه يكتشف بأنّه (مربوط) بلعنته ، التي قد تكون إغترابه وغربته وإستلابه ، أو ما يُمكن إستنباطه من النصّ و إنفتاح دلالاته و معانيه ..
( 9 )
في ( العاصور ) يدخل "محروق إصبعه ، او عبدالهادي سعدون " مرحلة (الإستلاب) المُطلَقْ .. إذ ينتحلُ ، هنا ، صورة " شارلي شابلن " في " الأزمنة ألحديثة " ليس بإختياره طبعاً ، بقدر ما هو إستجابة لموقعه في (العالم الكبير..) !وفي الوقت الذي يرى فيه "الصعلوك شارلي" كلّ ما حوله على هيئة (صامولة) عليه ضبّها وتضبيطها ، بتلك الحركة الآليّة المحدودة وبالسرعة ألتي تفرضها الآلة ، وتحت تاثير السرعة والتكرار ، يرى أنف مسؤوله (صامولة) يهرع إلى تضبيطها ، وكذلك أزرار تنّورة السكرتيرة وحُلمتها .. وكلّ شيء من حوله .. كلّ شيء ، فإن "عاصور" عبدالهادي سعدون ، بحكم الإستلاب الذي يحياه في ظلّ شروط المجتمع نفسه ، مضروباً في تسعة عقود من (التطوّر) ، يؤول به إلى ألمصير نفسه .. وهو ما سيقوده إلى التمرّد عليه أيضاً .." الذي سقط هو أنا ، فجئت كمن ينتقل من قُفّة عصير الرمّان إلى قُفّة كبيرة ( لا علاقة لها بمجرى نهر ولا شقّ بحر ) لا أوّل ولا آخر لها وبقربي عصارة من الحديد اللامع وصناديق من البرتقال."(ص76) " أتخيّل مشاهد عديدة بينما يداي تعملان قصماً بالبرتقال الممتلىء "(ص76) ." اخرج أو لا اخرج فالبرتقالات تناديني "(ص76) ، ثمّ وهو يرفض أن يتشيّأ تماماً ، فيبتكر علاقته بالأشياء " أحادث البرتقالات ، أسمّيها بما أعرف من أسماء و ما ابتكر من أوصاف وماضٍ ورغبات"(ص77) .و هو أيضاً يحلم باللجوء إلى هولندا لأن لها لون العصير الذي يعمله..!ولأنّه مُصادر " أغلب المرّات أقتنع بلا سبب "(ص77) .ولأنّه ضائع ، في مجتمع ، يوغل في تصنيعه فإنّه " مضيت من مكان إلى آخر مع ورقة سيرتي الذاتيّة بحثاً عمّن يقبلني أعمل عنده . ولأنّ الأماكن تشبه بعضها فكثيراً ما ينتابني ما إنتاب جدّي وهو يظنّ إن المدن كلّها شبيهة ببغداد ، فكنت أخطىء المحلات ، فأعود لها أكثر من مرّة أسأل أصحابها عن إمكانيّة تشغيلي"(ص78).ولهيمنة الواقع ، ألذي أحاله إلى "عاصور" أو "العاصور" بلغة الجميع " جاء العاصور ، مضى العاصور "(ص76) حتّى بات يعتقد بأنّه إنما ولد من فلقة رمّانة "خرجتُ من كؤوس "جبّار أبو الشربت" عند حافّة دجلة ، بعصير رمّانة ، لأصل عند الفندق وسط مدريد"(ص76) ولأنّه ليس إستلاباً فرديّاً ما يحياه ، ولا يبدأ به أو ينتهي به ، فإنّ له أشباه لا يمكن إحصاؤهم " يرميها بيدرو أو بيدرو أو بيدرو آخر .."(ص76) .ولإنّ ثمّة دائماً ، وأينما كان ثمّة "مرشد" و"رئيس وزراء" و"دليل" و"مخبرون"، فلدينا هنا "كبير طبّاخي الفندق"(ص76) الذي يشير له / أو يُشار له / ب(الكبير) ، والذي سنكتشف فيه إستمراراً آخر ل(مُنعم فرات):" الإشارة الآن هي إنّني أصبحت معروفاً للجميع بسبب من إهتزاز حدبة كبير طبّاخي الفندق ، الذي لم أرَه بعد ذلك ربّما لأعوام ، بينما يؤكّد الجميع بأنّه يراقب عملي كلّ ليلة دون أن أشعر به"(ص79). وينتحلُ الكبير ، هنا ، صفة إله آخر ، إله رأس المال المُعاصر .. فهو أقرب إلى"الأخ الأكبر" – الذي صوّره (جورج أورويل)في (1984)- منه إلى"مُنعم/فرات" ، أو آلهة الأساطير الأخرى "ومن ذلك إنّه يحسب قشور البرتقال في أكياس الأزبال ومن ثمّ يقيس لترات ألعصير ليتأكّد له إّني أعمل بنزاهة."(ص79).و (هو) ، مثل غيره من الآلهة ، رحيم طبعاً " ولطالما غضّ النظر عن برتقالة كلّ ليلة ، كما إنّه عطّل أجهزة المراقبة ليجعلني أمضي إلى غرفتي دون محاسبة "(ص79).و (الكبير) – مثل غيره من الآلهة – يُحبّ الطاعة والمُطيعين " وبعد كلّ مراجعة ليليّة يرى تعليماتي المُلصقة على ظهر العصّارة لتفادي خسارة قطرة واحدة ، فيوقّع على ترقيتي إلى درجة أكبر"(ص79) .و (هو) أيضاً ، مثل آلهةٍ عديدة ، يُحبّ (الأقوياء) ويحكي عنهم "يدقّ على صدره ويردّد بأنّ فرانكو كان رجلاً حقيقيّاً .. فحل أقول لك "(ص81) .ثمّ ، وبعد أن تكتمل صورته كإله العصر ، يبدأ (الكبير) بسرد إعترافاته كمُنتحِل ، أو كفرد من عائلة عبد الهادي أو محروق إصبعه ، في إمتداداتها الكونيّة أو العالميّة "ومن ذلك أمضي بحدبة مُصطنَعة ، تحسّسها ، لا تعتقد أنت الآخر بأنّها حُدبة حقيقيّة ، بل إنّها أسرار فوق أسرار ، جبل من شهادات وموت وحروب وزوغان عين والتهابات أحاول أن أغطّيها لأنسى عائلتي .. عائلتي التي تهيأ لها كلّ شيء من أجل ان تستمر كذكرى موجعة ، ليس لها غير إنتحالات والبوم صور وأسرار حتّى اليوم يكشفون عنها فتزداد مثل العفنْ ، بينما عليّ أن أغطّيها بحدبتي هذه .."(ص81) .كذلك يعترف (الكبير) بانّه إنما (ينتحل) صفة (الكبير) إستجابة لضرورات عصره " .. المهم بأن تمضي بكونك الكبير أمامهم ، وجدران غرفتكَ مُزيّنة بشهادات وأوسمة وتزييف و صور وإبتسامات واهية ، أنا الوحيد القادر على إزاحتها "(ص81)ولأن "محروق إصبعه أو عبد الهادي" يكتشف هذا الإمتداد الواسع والعميق لأسرة إنتحالاته ، فإنّه عندما يخرج من غرفة(الكبير) ، بعد أنّ يسرّه بإعترافاته ، يشعر بإنتقاله العميق في الزمان والمكان " أخرج إلى عملي أو إلى غرفتي برغبة لقياس كيلومترات الخطوات على مدى أعوام وأعوام"(ص82) وهو إنتقال رمزي ، وفعل يوغل في إتساعه ..!فلقد كشف له (الكبير) السرّ الذي لم يكشفه له أيّ من (آلهته) الأخرىالسابقة ، التي إكتفت بالإختفاء ك(مُنعم فرات) مثلاً ، غضباً او حزناً ، وراح يتخيّل لعناتها تنصبّ على رأسه ، فسكنه ألرعب من أبناء فصيلته (ألثيران) مرّة ، وتحوّل رأسه إلى حجر في أخرى ، وفقد إسمه وذاكرته وهويّته من جرّاء ذلك .. بينما كشف له (الكبير) الحقيقة ، حقيقة الصراع ، وهو في أن تصبح (الكبير) أو تنتحل صفته (أمامهم) ، أي أن تصبحَ (جبّاراً) ولا بأس من ان تصبح (رحيماً)، فيما بعد ، فتتواطأ على سرقة برتقالة مثلاً...!* * *ويُعلن "بطلنا" :"ولأنني حصلتُ على ثِقته فقد أمرَ أن أنتقِل للعمل برفقته"(ص79)."للعمل برفقته" ولكن اين ؟؟!أن تترقّى للعمل معه ، وهو (الكبير) فلا بدّ أن يكون ذلك في موقعه ، في المكان الذي يليق به ، في السماء السابعة أو في (سماء/جنّة) عالمنا المعاصر ، لأنّه (كبير) يوغل في مُعاصرته " أمضي وأجيء مع الكبيرمن محلّ إلى آخر . آخرها في حفل تكريم حضرته وجوه تشبه ما أراه كلّ ليلة ، ولكنّهم يُنادونهم بألقاب وأوسمة وجاكيتات سموكن برفقة بياض وألوان طواويس بملابس نسائيّة "(ص82) اليست هذه (جنّة) عالمنا ألمُعاصر ؟ حيث ألطبقات (العُليا) تعيش وتعشّش في سماواتها السابعة ؟! اليست هي (الجنّة) التي تتطابق مع (الكبير) المعاصر ، الذي هو ( الاخ الأكبر) ممزوجاً بتراث له إمتداد الواقع وعمق الإسطورة ؟!" أمضي خلف الكبير من زاوية لأخرى ، يزيّن يأمر ، يشير ، يترفّق ، ينبح "(ص82) ولإنّ (الكبير) ليس بمُنعم ولا فرات ، الإله الغامض المُلتبس الذي إنتحل الغياب إختياراً ، ولأن محروق إصبعة وعى ذلك من إعترافه وهو (الكبير) ، فإنّه لا يتورّع عن وصف صراخه ب(النباح) ، أيّ إنّه لن يتحسّر على إختفاءه إذا ما (فعلها) كما تحسّر على مُنعم فرات من قبله ..ثمّ لأنّه (أجبر) على بيع "ذاكرته" ، و(أجبر) هنا لأنّه بدأ (في وعيه أو لا وعيه ) يكتشف الحقيقة ، ويّزيح (لعنة ألسرداب) عن كاهله ، كما إنّه (بأثر رجعيّ) يكتشف بأنّه ليس المسؤول عن تحوّله إلى (حراكة) ، في مركب أو بدونه ، لا لشيء إلا لإنه بلا (قصّة مُقنِعة) ، فقد كشف ألسرّ الآن و لذا فإنّه يعرف خواء (الجنّة) ألتي سيدخلها ، وإنّه سيواجه ثلّة من (ألمُنتَحِلين) – مثل (الكبير) - هناك .. بينما ( هو ) رغمَ تقاطر الأسماء على رأسه ، يعي إنتحاله ويعترف به ، و يعرف بأنّه لا يمكن لجنّة أن تحتويه ، فهو مثل "الصعلوك شارلي" بلا سماء يحتمي تحتها ، ولا ظلّ يلوذ به ، ففي غمرة (إستمتاعه) ب(آلته) الجديدة " يتطافر العصير على يدي أوّلاً ، وأحاول ان أتحاشى فورته ، يتصاعد وينسكب على المنضدة ، على الجاكيتات والوجوه والعيون المفتوحة على وسعها فتضيق فتحات العيون هرباً من الحرقة والدبق والفضيحة أمام فلاشات الكاميرات المُضاءة . يسقط الكبير ولا أرى منه غير حدبة عالية كتلّ ناشز وسط أرض مُنبسطة ببياض ملابس تبقّعت بألعصير واصبحت قريبة الشبه بعلم هولندا "(ص83) هكذا ، ولتأكيد قصديّة ما فعل ، ربما بلاوعي أيضاً ، هو إصطباغ الملابس البيضاء بألعصير لتُصبح شبيهة بعلم حلمه (هولندا) حيث يريد (اللجوء) ..!ولإنّه حاله كحال "شارلي الصعلوك" ربطته أزمنته الحديثة ب(آلته) فأنّه "يضبّ" انف مسؤوله مُعتقداً إنه "صامولة" :"ولأنني مُتغافل ومستمر بالعصر ، تنزلق الصحون ، وتنزلق أيدٍ من كلّ مكان لتحملني خلف ستارات ، خلف أبواب ، خلف بنايات وترمي بي .."(ص83) .و (هو ) الآن ، لا ينطلق (إلى أمام) مثل ثور ، لإنّه ما عاد له أمام بعد أن إكتشف أسراره ، فقد جرّب ، في رحلته ، ( الدليل ، والمخبرين ، والمنقذ ، ورئيس الوزراء ، والمعلّمة ، و .. الكبير أخيراً ) ، لذا ينظر إلى قطعة "التشينكو" المُعلّقة على البناية ب "جملتها السحريّة" :(البناية مؤمّنة من الحريق) : " انهض إلى المطبخ . أخلّص الرفّ من البرتقالات برميةٍ واحدة .أعود حاملاً عُلبة ثقاب "(ص83) .
( 10 )
تتّخذ (( إنتحالات )) عبد الهادي سعدون ، شكل (( الأحجيّة )) أو (( الحزّورة )) كما نسميّها في العراق و (( الفزّورة )) في بلدان أخرى ..(( لأنني بلا حكاية مقنعة ، فانني أبتكر أمامكم حكايتي الخاّصة ))(ص13) هكذا يبدأ (حراكه ) إفتراضه / أو ربّما إعترافه / ثم يبدأ بسرد حكايته الحقيقّية بغضّ النظر عن مدى قابليتها على (الإقناع) . انه يقفز بالواقع الى(الإفتراض) ( الإنتحال هنا ) ليحمّله فانتازياه ورموزه الخاصّة .. أمّا ما يسمّيه (وهم) فسرعان ما يتحوّل الى (رمز) ..دون أن ينسى لذّة (الحكي) التي يطرب لها بينما يتركنا مُعلّقين في شبكات رموزه ، وصولاً الى (النهاية) التي كثيراً ما يُحيلها الى (فانتازيا مُطلقة) ليس لدفعنا للإيغال في المتاهة ، وإنما ليكشف لنا السّر / أو يكثّفه أو يزيد شحنة الإيحاء به / لتنفتح دلالاتها وتتسع معانيها .. وهي في ذلك إنما تتطابق مع (( الحزوّرة )) التي تنكشف عند الوصف الثالث والأخير للشيء المُراد معرفته أو حزره ، وتقف على طرف اللّسان من دون ان تفصح عن نفسه ، أو تنطق ذاته ، ولذا يجب أن تردّ الإحتيال الذي مُورسَ بحقّك كقاريء ، بأن تحتال عليه ، وتعود مع حكايته خطوة خطوة لتتشكّل في ذهنكَ من جديد ، ربّما ليس كما أراد لها كاتبها (المُحتال الأوّل ) وإنما كما إنفرطت من فمه أو ( قلمه ) وهو في أقصى لذائذ فرحته إذ ينصب لك الفخاخ الواحد بعد الآخر . . عندها أيضاً تتكشّف لك بعضاً من أخطاءه ، لأنّك أعدت إنتاج أو إفتراض الحكاية من جديد ، وباتت ، في ذهنك ، ربما ، أكثر منها وضوحاً على قلمه : ففي الوقت الذي إفترض فيه علينا إيمان ( العاصور ) بأنه (خرج) من كؤوس (جبار أبو الشربت ) بعصير رمّانه ، نجده يتحسّر بعد ( عشرين سطراً من الحجم الصغير ) بأنه " كنت قرب (( جبار أبو الشربت )) واحداً من المتمتعين بالشراب الوردي يتألق وينساب رطباً في بطوننا .."(ص76) وهي ( شطحة ذاتية ) من الكاتب وليس من أحد مُنتحليه ، نصطادها ونفوز بها ، لأنه تحدّ باتفاق الإثنين ( القاريء والمقروء ) ولا نقصد المقروء له فها هي همومه الذاتية ورؤاه تتسّرب دون أن يتمكّن من إلصاقها بواحد من ضحاياه العديدين الذين يرتدي وجوههم ويُصوّر لنا ذلك وكأنه قناعاً يلوذ به ، بينما هو وجهه ، وأعني وجهه العراقيّ الأوّل الموضوع على هيئة صورة في بطاقته وجواز سفره وبيانات إقامته في مدريد منذعام 1995 ، بينما يأتي تأكيده باطلاق أحدهم إسم (Abdulhadi ) على (محروق إصبعه ) لغرض المسكنة والتماهي ليعلن لنا إنه ضحيّة مثلنا أو مثله بينما يواصل تفخيخ رؤوسنا بانتحالاته ..
( 11 )
هل قلتُ بأن (( عبد الهادي سعدون )) وليس محروق إصبعه هنا ، قد أعاد صهر الألم العراقي والتجربة العراقية في (( انتحالات عائلة )) ليصوغ منها رؤيته ورؤياه للعراق والعالم..؟لا شك بأننا في (( انتحالات عائلة )) سنجد أكثر من مساحة للإجابة . . وكذلك أكثر من سؤال .. !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق