الجمعة، 2 أكتوبر 2009

قراءة / د.السيد نجم



قصص عبدالهادي سعدون غير العائلية!


مجموعة قصص متميزة، وفيها من الشعر ما يستحق وقفة أخرى.




بقلم: د.السيد نجم


صدرت المجموعة القصصية "انتحالات عائلية" للقاص العراقي "عبد الهادي سعدون" عن "دار أزمنة" للنشر. من إصدارات الكاتب قصص"اليوم يرتدى بدله ملطخة بالأحمر/1991م"، شعر "ليس سوى ريح /2000م"..مع العديد من المترجمات. وقد كتبت قصص المجموعة ما بين الأعوام 1997-2001.
تلك المقدمة ليست من فرط الحديث حول المجموعة القصصية المعنية، أظن أنها ضرورية قبل قراءة تلك القصص التي هي فرط من الأحوال والتجليات لجوهر واحد ووحيد..وهو هم القاص في البحث عن ذاته التي هي: "فأنا لا أعرف من أنا كما يرددون. ثم يضيفون أنك لست بمغترب، ولا هارب، ولا حاد الأسنان، ولا منفعة لمسح أكتاف، ولا منفى، فلا أنت أبيض ولا أنت أسود، فمن تكون بعد أكثر من باب وأكثر من بحر؟" ص13(قصة حراكه).
بتلك الكلمات القليلة تشكلت أحوال القاص وقصصه.. وعليك أن تقرأ القصص التالية (ثمان قصص) من المجموعة للبحث عن إجابة للسؤال الأولى الذي افترضه، أو لعله طرحه دون أن يقصد أو عن غير عمد.
إليكم تلك القصة:
"لأنني بلا حكاية مقنعة، فإنني أبتكر أمامكم حكايتي الخاصة.
"كل حكايتي كانت هذا اللاشىء: اسم".
رفع ساقيه في الريح فلم تتكئا على ريح، فسقط فتكسرت أكتافه.
عن أبي: إن أصلابنا تعود إلى آخر الزفرات في بطن جارية للحجاج حين أطبق ترسه على طين أضلاعها في فراش القيلولة حتى غفا في وفرة الدفء والدبق ودسم فروج مشوي مازالت هشاشة لحمه تحرق تفاحة رقبتي.
"أنتظره.. حتى يخرج عصفور من فمي ويختفي في الصمت".. هذا ما فكرت به كمدخل للقصة.
القصة التي تقرؤونها معي وتصرون على تبديل عنوانها لأنه ليس فصيحا (ونين)، فأخبركم بأن (الأنين) بلهجتها –هي أمي إلا أنها لا تستطيع تحديد الأشياء- لا يكتمل دون حذف الألف وإضافة واو بدله ولأنها لا تعنى الأنين وحسب بل الحرفة وذوبان الجسد وشد الأوصال وذرف الدموع حتى لا يبقى أثر لدمعه واحدة.
بعد أن بحثت "غادة السمان" عن تماثيله في أنقاض الحجر والصواريخ وسط بيروت، لم تعثر على شئ.
ومنذ أن وضعت قدمي في مدريد، وأنا أشعر في كل لحظة ثمة ثور سيباغتني وينبت قرنيه في خاصرتي.
خرجت من كؤوس (جبار أبو الشربت) عند حافة دجلة، بعصير رمانه، لأصل عند الفندق وسط مدريد، لا لشيء سوى أن أعصر البرتقال كل ليلة قبل عودتي إلى غرفتي.
أمضى في الشوارع بثقب في جبهتي.. (لا تحاول أن تجدد العالم).
***
..ما سبق ليست قصة كتبها القاص، ليست أكثر من السطور الأولى لقصص المجموعة!! وهو ما يثير السؤال حول إمكانية قراءة قصص المجموعة كعمل متتابع يجمع بين طياته خط سحري خفي بدأه القاص بـ"لأنني بلا حكاية"...وانتهى بالاختراق في جبهته التي هي (ذاته) وأنه لا جدوى من محاولة تجديد العالم!
يمكن قراءة القصص كأطياف متنوعة الألوان عن أصل واحد، لذا فضلت ألا أتناول قصص المجموعة قصة فأخرى، لأنها في الحقيقة سوف تكون قراءة مبتسرة.
ومع ذلك نسعى لجمع الشتات ونسأل سؤالا آخر: ما هي خصوصية القصة عند عبد الهادي سعدون؟
..التساؤل حول الخفي وطرح الظاهر المباشر، لعله من خلال بحثه يهتدي إلى ضالته غير المعلنة. في قصة "حراكه" حيث يبتكر القاص حكاية ليكتبها..وقد أخذوه الى حيث لا يعرف، والقوا به في القارب الغامض يتساءل:"أراقب أين أنا؟، فأجدني محاطا بالوجوه نفسها التي تركتها منشورة كأجنحة قبعة عريضة تراقب أفقا لا يتحرك..."
..الشخصيات نتعرف عليها من أفعالها ومن آثارها وتأثرها، ليست هناك ملامح وجوه ولا صور أبدان ، فلا الأم رسمها لنا ولا الجار..ومع ذلك عرفن الكثير عن الأم (مثلا) عندما أشار إلى أنها تنطق "الأنين" بـ "ونين". كما عرفنا الجار عندما خاطبه في قصة "ونين" قائلا: "كتبت القصة منذ زمن بعيد، هو ليس الآن، ربما قبل عشرة أعوام عندما لم أفكر بعد بكتابتها، ولم أكن أتخيل حتى اللحظة التي سأجلس فيها لأسطر الحروف.."
..الأحداث ليست سوى انتقالات بالكلمات، فبدت "اللغة" صاحبة خصوصية لا يمكن الانفلات من تأثيرها والالتفات إلى دورها في قصص المجموعة. عفوا فتحت على قصة، فكانت "تزوير"! أما وقد غاص القاص في أثر "الخفة" والتي شاعت كفهم وفكر في القصة والرواية خلال العقد الأخير من القرن الماضي.. فكانت مفرداته هكذا: "هذا اللاشيء- تشبثت بالـ"هنا"- ولأنني بلا أثر – التجرد من الأثقال- جريت بكل قوة الروح..وغيرها بالصفحة الأولى فقط من القصة".
..وهناك ملمح استخدام المفردات الأجنبية بالحروف اللاتينية، تلك التي شاعت ومازالت محل التساؤل حول جدواها وضرورتها.. لن نفترض جوابا ما، فقط نرى أنها هنا في تلك المجموعة وردت محدود وموظفة بشكل مناسب في القصة الوحيدة التي وردت فيها، قصة "تزوير أو محروقة أصابعه".
..وربما يجدر الإشارة إلى أن القاص استخدم "ضمير المتكلم" في قصصه، وهو أن كان عمدا أو عن غير ذلك، متوافق مع توجه القاص الحائر المتسائل.. الباحث عن ذاته وعن الحقيقة. وقد أتاح ضمير المتكلم للقاص قدر من السماحة وعدم التحفظ ، لنقل قد يخال للقارئ أحيانا أنه يقرأ اعترافا ما أو رغبة في البوح ودعوة إلى المشاركة تصل إلى حد الصراخ وما هي بصراخ!!
يقول صاحب قصة "مخبرو أجاثا كريستي": "في الليل تقترب عربتهم. أنزل إلى السرداب ولا أرى شيئا. وصفوا لي مشخوش. بحثت الليل بطوله ولم أعثر عليه. أخبرتهم وقالوا لي أحمل ما تراه. قبل الفجر ملأوا عربتهم بكل ما طالته يداي. ألواح ومسلات، رؤوس ورؤوس بعيون وبدونها، بهيئة شياطين أو ملوك أو آلهة. تركوني وحيدا منهكا أعلى التل، هواء ثقيل يحيطني، فراغ ثقيل وروح فارغة، بينما عليقتي الوحيدة الممتلئة بالدنانير."
مجموعة قصص "انتحالات عائلية" للقاص عبدالهادي سعدون متميزة، وفيها من الشعر ما يستحق وقفة أخرى، والطريف أن القاص يكتب الشعر أيضا وهو الواضح في قصصه!

-----------------------------------
*نشرت في موقع (ميدل ايست اونلاين) بتاريخ 26/7/2003م.


ليست هناك تعليقات: