الثلاثاء، 28 يوليو 2009

قراءة لديوان ليس سوى ريح


تنظيم فوضى اللغة قراءة في مجموعة

(ليس سوى ريح)


كتابة :محمد الحمراني


عندما يشتد القلق تحاول اللغة الهروب إلى منابعها الأولى، لا يمكن تأجيجها أو اكتشاف نقطة الاختفاء والتلاشي إلا في وعي الإشكالية التي سعت لحدوث ذلك، لتكون لحظة التأمل المفرغة من شوائب الماضي أول الطرق التي من خلالها ممكن الوصول إلى قوة المسميات والتي هي شائعة لدى الآخر ولكن غير مكتشفة قواها إلا من قبل الشاعر الفاحص الدقيق بعد لحظة التأمل، فيطرح رؤى وأفكار لا علاقة لها باستخدامات اللغة الشائعة ولهذا نستدل على لحظة القلق والإرباك من خلال قوة التهديم باعتبارها رؤية جديدة. أنها أول دوافع البحث عن لغة لا تقل قلقاً عن الحادثة. هذه الحادثة التي تسعى بسرية إلى إلغاء الأمكنة وتهشيم الإنسان (العالم) لتختفي اللغة. إن إختفاء اللغة /منفى/ ولحظة الأمساك بها دليل إصرار على لا جدوى الموت وهذا ما نلاحظه ونحن ندخل لقراءة مجموعة (ليس سوى ريح) للشاعر عبدالهادي سعدون:" أينذر الخطر بشيء مربكمثلا:أن تتساقط أعمدة السقيفةرغم دفنها منذ زمنأو تطير أجنحة الرخ لوحدهابينما تتلظى خفقاته على بردعة الرصيف". (ص 71)إن الشاعر عبدالهادي سعدون يأخذ جزء من اللوح الثالث من ملحمة كلكامش ليضعه في مقدمة المجموعة وكأنه يريد أن يقول "لا يمكن حل إشكالية الحاضر لأن كل ما نسعى لخلقه ليس سوى وهم". إن كلكامش كان يعاني من كيفية الوصول إلى ما يجعله خالداً وهذا ما جعله يطرح أسئلة ذاتية تبحث في ضرورة وصول الإنسان إلى مرتبته الإلهية. إنه لم يكن متخاذلاً في البحث عن ما هو مؤرق ولكن سعى بجدية للبحث عن لغة جديدة يطوعها للحلم/الإشكال/ الذي وقف عائقاً قبالة أفكاره الجديدة. إنه لم يبحث عن بناء بقدر بحثه عن تهديم " الإنسان يستطيع أن يحصي أيامه ولكن ما ينجزه ليس سوى ريح". إن المقطع الأخير هنا "ما ينجزه ليس سوى ريح" هو عملية التهديم التي سعى كاتبها لكشف تمرده ضد كل ما هو دنيوي/بشري/. إن هذه الفكرة هي التي جعلت عبدالهادي يتضامن مع جده كلكامش ويمضي بهدوء في دروبه الشائكة:" الفصاحة لا تكفي لكلماتيأدرجها في بطاقة الترجمان/عله ينتصر للسانيأمرر عليها أسلاك الجدحة/ كي تقرر أنتصاب لغتهاكي تلتحي أشاراتها بالوهاق العاجلكي تسيل بعذوبة سوائل القارورات المختبريةكي تتعتق كنبيذ قروسطيكي تتعزى بفجر لا أرق فيه " ( ص 62)هنا نكتشف الأرق الذي تعانيه الكلمات والذي يصرح بها الشاعر في لحظة مساس ما هو أكثر تأجيجاً للذاكرة وهذا بالذات ما يجعل (ليس سوى ريح) تسعى لأقلاق القارئ من خلال أربع مجاميع متداخلة أو كما كتب في مقدمتها (منتخب من شعر) كتبت في أمكنة مختلفة وفي أزمنة متباعدة. أن القلق الذي أصاب كلكامش من المنجز هو الذي دعى عبدالهادي سعدون إلى إلغاء المسافة وأختبار ما هو أكثر أشراقاً من المجاميع الأربعة، علماً بأن هذا الإختلاف لا يسبب إرباكاً للقارئ إلا في لحظة الإنتهاء من القراءة وهو يكتشف بأن القصائد الأولى في الكتاب هي آخر ما كتب على صعيد المنجز، أما القصائد الأخيرة فهي القصائد الأولى في زمن الكتابة. هذا الإرباك الذي يشوش دائرة التلقي يجعلنا ندرك خطورة القلق الناجم عن ضرورة البحث عن الإختلاف وهذا ما ذكرني بما طرحه أدونيس في كتابه (النص القرآني وآفاق الكتابة) وهو يقول: " إن الشعر حتى في أوج كماله يعيش في أزمة.. الشعر تحديداً أزمة. فهو دائم الجدل، صراع بين الشاعر ونفسه، بينه وبين اللغة، بينه وبين الأشياء". إن عبدالهادي سعدون يكتب قصائده وهو في عمق الصراع ولهذا تحاول أن تهرب منه اللغة ولكنه بتجربته الإنسانية الموجعة التي كشفتها قصائد مثل (ماوت) و (بدايات تبتدئ) و (موتي على أحبابك) وبحرفته يسعى لإمساك اللغة كرجل يمسك الشمس ويحركها كيفما يشاء. هذه اللغة الهاربة وحدها دخلت إلى عمق اللاشيء لتفضحه وهذا بالذات ما جعل الشاعر يقتصد في أستخدامها وهو يحاول ترميم الأفكار:ثمة ميتات عديدة،المصادفات، وحدها، الشحيحة. ( ص 35)أو يسعى لتكرار بعض الكلمات كما في قصائد مثل (إبكه جيداً) و (سرفات دبابة) و (هي اللحظة) وقصائد أخرى أيضاً. هنا لا يسعى التكرار لأن يكون ظلاً للسرد فالقصائد في الأغلب تأخذ منحى الحكاية الشعرية. وهذا بالذات ما آمن لها بناء سردياً متماسكاً، ولكن وجود هذه الكلمات المتكررة داخل ذات القصيدة كان لغرض تنظيم فوضى اللغة، هذه اللغة المتناثرة على الورقة تجعل القارئ يتلمس الفراغات متصوراً بأنها قبل قليل كانت تملأها حروفاً ولكن ثمة مقاصد تسعى لتهديمها:"هي اللحظةظلها قد أكونمثل حمرتهاأو غارق بالحبراللحظة مسمياتها التي تتناطح و غفلة جدرانهاالتي لا تستريح." (ص 19)في مجموعة (ليس سوى ريح) يولد الشعر من حدة أقتناص الفكرة وانفتاحها. أنها تهتم بأشياء غير فاعلة في الحياة ولكنها فاعلة في تشكيل الفكرة. وهذا ما جعل عبدالهادي سعدون يترك الأسئلة الكلكامشية ترسم خيوطها بجوار صمت مقلق:• هل سأتمكن من النوم في سائر السنين؟• كم من النور نجد في المقابل؟• هل سيرى الميت أشعة الشمس من جديد؟الميت/الشاعر/ كلما حاول النهوض وأعادة بناء العالم سيصل حتماً إلى لحظة إلغاء/تهديم/ وخلق من خلالها سيصل إلى أسرار منابع اللغة الأولى. يقول رومان جاكوبسن: "إن عملية تطور اللغة تشترك في كونها ذات هدف مع تطور الأنظمة الإجتماعية". إن عبدالهادي سعدون لا تقلقه رؤية الشمس وهو أعتاد الجلوس على جبال تحلم أن ترتدي الثلج وكذلك تأمل جيداً الشعر وربطة العنق في الدولاب، إنه قلق التفكير في البذرة التي تحفر جذورها وكأنها تلعب، إنها سنوات تشبه الريح ولكن ما يصلنا منها سوى ضجة المداخن.ـ


ـــــــــــ• ليس سوى ريح/شعر/ عبدالهادي سعدون/ دار ألواح 2000 .ـــــــــــــــــــــــــــــــ

http://shrooq1.com/vb/showthread.php?p=38909
ـ

ليست هناك تعليقات: