الأحد، 17 فبراير 2013




تمثيلات الخراب في رواية ( مذكرات كلب عراقي) لعبد الهادي سعدون

علي كاظم داود

جريدة العالم في 14/2/2013
http://www.alaalem.com/programs/pdf/upload/irq_1012398264.pdf

عمدت الرواية العراقية الجديدة، خصوصاً الصادرة بعد التغيير، إلى تقنيات مختلفة لتمثيل الواقع، حيث كثّفت من توظيف المعماريات السردية الجديدة وجماليات ما وراء القص (الميتا سرد)، بما في ذلك الاشتغال في أُطر فنتازية، إلا أنها ـ في كل ذلك ـ كانت تستهدف الواقع المعيش دلالياً.
في كتابه "رسائل إلى روائي شاب" يقول ماريو فارغاس يوسا: "إن أصالة الكاتب الفنتازي تكمن، قبل كل شيء، في الطريقة التي يُظهر بها مستوى الواقع..." ، وهذه المقولة، بالنظر لتعلقها بنظم لون من ألوان الفنون الحكائية، يمكن لها أن تكون عتبة مناسبة لقراءة رواية (مذكرات كلب عراقي) للروائي والقاص عبد الهادي سعدون، والصادرة عن دار ثقافة للنشر والتوزيع في بيروت عام 2012، في 170 صفحة، حيث تتخذ هذه الرواية من الفنتازيا إطاراً تقدم من خلاله واقعاً مرّاً، معيشاً على نحوٍ ما.
تتشكل الأدوات السردية في هذه الرواية من تلك النزعة التوثيقية في سردها للأحداث، خصوصاً في ما يتعلق بتمثيل الواقع الخارجي، بينما تتجه نحو التخييل لصناعة مدركات واقع السارد، الكلب ليدر، بوصفها سيرة حياة عاشها، أو أحداث كان شاهداً عليها.
في الرواية يتقمّص "ليدر" معاناة الإنسان العراقي، ويروي أحداثاً تتمثل واقعه، تجسيداً لذلك النموذج البشري المهمّش، بفعل فاعل. فإذا عُرف أن لا قيمة للكلب في ثقافة المجتمع العراقي، إذ إنها ـ أي هذه الثقافة، بخلاف ثقافات أخرى ـ تنظر له بازدراء، وتركز على إبراز الجوانب السلبية والوضيعة فيه؛ ولهذا يستخدم رمزاً للشتم والتقريع ـ على الأغلب ـ إذا وصف به أحد ما، كما ويتجسد فيه الإهمال والاحتقار وعدم الاعتناء، من قبل الإنسان، حتى ضرب به المثل في ذلك. إذا استحضرنا هذه الخلفية الثقافية، سنعلم أن هذه الرواية تستبطن فهماً جيداً لطريقة التفكير التي كانت تحكم البلد، و(المنهاج الثقافي) الحقيقي الذي كان يتجسد عملياً في ممارسات النظام وتعامله مع الفرد ... فما معنى أن يطعم الإنسان لحيوانات النظام المفترسة، وأية قيمة له وهو يعدم بهذه الطريقة البدائية البشعة، مهما كان جرمه، إذا كان له جرم فعلاً!
"ليدر" ذلك الكلب العراقي الذي انتهى به المآل في دولة أوربية، ينزوي في مأواه ليكتب مذكراته المليئة بالمآسي والأحزان والمفارقات؛ يروي كيف يُنتزع من حياته الهانئة في كنف صاحبه، الذي يدعوه المعلم، ليُلقى به في صراعات عديدة أريد لها أن تكون للفرجة والمتعة، وليكون هو الخاسر الوحيد فيها، لكنه يتحامل على جراحاته وآلامه ليحقق النصر في النهاية.
المعلم هو الآخر عاش معاناة كبيرة سببها له النظام الحاكم، حيث تصادر مزرعته ومنزله، وبعد ذلك يسجن. وهذه المآسي امتداد لما تعرضت له عائلته التي صودرت مزارعها المطلة على امتداد النهر، للضرورات الأمنية نفسها، "تلك الأحجية المخيفة التي يستخدمونها في كل شأن" بحسب تعبير الرواية. لكن هذه الضرورات، في الحقيقة، لم تكن إلا لبناء قصور لأتباع النظام في هذه الأراضي المستلبة من أصحابها قهراً.
الرواية تعيد سرد وقائع الخراب العراقي قبل وبعد حدث سقوط نظام صدام. خراب الإنسان، أو ما لحقه من تخريب، بامتهان كرامته وانعدام قيمته في حسابات أصغر أفراد ذلك النظام القمعي، ما أثّر على سلوكه الجمعي بعد ذلك. الكل كان معرضاً للاعتقال، دون سبب يستحق. "ليدر" أيضاً، بوصفه نموذجاً ممسوخاً لإنسان هذا البلد، يُلقى به في سجن كبير، يشاركه فيه عدد كبير من الكلاب المعتقلة.
السلطة تتخلى عن الجميع في اللحظات الحرجة، إلى هذه الميزة التي عرفها العراقيون في العهد السابق يشير "ليدر" في مذكراته، حيث يروي كيف ترك الحراس الزنازين مقفلة وهربوا مع دخول القوات الأمريكية للعراق.
بعد إفلاته من المعتقل يتجول في بغداد، ويراها كما لو كانت "شبح مدينة، مدينة خراب، وكأنها لم يسكنها أحد قبل الآن". فيوثق تلك الفترة الأقسى في تاريخ المدينة، حيث ملأتها الصواريخ والمواجهات المسلحة بالأنقاض والسيارات المحروقة والجثث. ثمة أيضاً من يهللون ويهتفون فرحاً بالحرية القادمة.
في هذه اللحظات تجسد الرواية انتقاماً رمزياً، نفذه الكلب بأحد تماثيل صدام التي لم تجد الجموع غيرها لتصفية الحساب معه، فيعمد لإفراغ مثانته الممتلئة على رأسه. يشعر لحظتها بالنصر، ولو افتراضياً، فيقول: "تلك اللحظة التي لن أنساها، شعرت بكل حزني وتعاستي تنزاح مع الجموع الهادرة، وأحسست بأنني أسعد كلب في العالم"... وفي هذا تأكيد على صورية النظام وهشاشته، خصوصاً في أواخر أيامه، فلم يكن يتراءى إلا في تماثيل من الحجر أو البرونز، موزعة على مفارق الطرق، لفرض هيبة الدولة الزائفة، والتي ارتبطت بشخص واحد فقط.
يلتقي "ليدر" بمعلمه ثانية، لكنه يفقده سريعاً، إذ يُقتل الرجل في اجتياح عارم من قبل السراق الملثمين لمنزله. يعيش بعد ذلك حياة التشرد واللاقرار، يقع بأيدي المستغلين والعصابات، حتى كأن شبح الموت يطارده أينما ذهب، فيرى نفسه يهوي نحو الأعماق في جحيم حقيقي، ما يدفعه إلى القناعة والاعتراف بأن "الغضب والكره هما المحركان الوحيدان للعالم... وأي عالم هو هذا، إنه الجحيم بعينه، لا أثر لرحمة ولا مكان لمحبة".
هذا اليأس من الواقع المأزوم لا يترك له خيارات كثيرة، فيضطر للاندساس متخفّياً في شاحنة متجهة خارج الحدود. يهرب تاركاً خلفه الخراب والدم الذي صبغ العراق في تلك الفترة، لكنه يتساءل: "كيف نهرب ... من الذاكرة المعششة في كل واحد منا؟". هجرة "ليدر" توازي في مدلولها هجرة ملايين من العراقيين للسبب نفسه، أو لأسباب أخرى، فهذا البلد قد امتهن كرامة الإنسان، بل والحيوان أيضاً، كما قرأنا.
وعلى الرغم من إتقان سرد الرواية إلى درجة عالية، تصل لإمكانية اعتمادها أنموذجاً لما يمكن الاصطلاح عليه بـ "شعرية الحدث" في الرواية، والتي نعني بها التأسيس لأدبية الروي بالتركيز على الفعل المنتج للحدث، لتحريك السرد ودفعه إلى الأمام دائماً، وهذا ما أوسعنا الكلام عنه في مقال منشور بعنوان "الرواية بين شاعرية اللغة وشعرية الحدث" ... إلا أن ما يؤخذ عليها، بالمقابل، هو ذلك الضمور في الإحساس بالواقع، ليس من قبل السارد الداخلي المشارك، بل من قبل المؤلف، حيث يبدو عمله تسجيلياً نوعاً ما، يركز على صناعة التاريخ الموازي، الذي يريد اطلاعنا على تفاصيله، دون أن نجد ذلك الشيء، الخفي والمؤثر، الذي يجعلنا نتفاعل معها شعورياً. في هذه الرواية، إذن، نقرأ عن حشد الخراب الذي اجتاحنا، ولكن بعين الراصد من بعيد، لا بمشاعر من عايش هذا الخراب أو اكتوى بجمره.
"مذكرات كلب عراقي" رواية مهمة للتاريخ، بما رصدته، وبما وجهته من إدانات ثقافية، سكت عنها البعض. فهي تدين، وبالأدلة المسرود لها في المتن، همجية نظام تخريبي حكم العراق عقوداً طويلة. كما تشير بإصبع الاتهام إلى القوات الأمريكية التي غزت العراق في 2003، مثيرة الأسئلة حول جدوى الفوضى العارمة التي أسهمت في إشاعتها. وتدين الإنسان أيضاً، بمقدار مسؤوليته، لأنه كان أداةً فاعلة في كرنفال العبث.
هذه الرواية لم تخرج من عالمها الواقعي، لكنها أفادت من الإمكانيات التخييلية التي تتيحها الفنتازيا، لتقديم رؤيتها الواقعية الخاصة، عبر تنويع تقني جديد على مستوى العراق، وصوت سردي مقموع روائياً، هو صوت الكلب، حتى لو كان ـ هو الآخر ـ يمتلك ما يريد البوح به.

ليست هناك تعليقات: